ابن سبأ والمُعارِض السياسي.. الديمقراطية وتقنين الخروج على ولي الأمر
إعداد - عبدالله بن محمد الشبانات
باحث شرعي مهتم بالشأن الوطني والقضايا المعاصرة
للديمقراطية طرح ثقافي في السياسة ينطلق من المذهب الفردي المعادي لرابطة الجماعة، وهذا الطرح يؤسس للخروج على ولي الأمر ويسوغه، على محورين: الأول بالطرق المقننة، والثاني بالطرق غير المقننة المدعمة ثقافيًا وفكريًا، ولهذين المحورين عدة مظاهر، فعلى المحور غير المقنن تكون الثورة هي أوّل المظاهر وعلى محور التقنين نجد أنّ هذه المظاهر تخرج بعدة أشكال، أهمّها ثلاثة أشكال مرتبط بعضها ببعض فلسفيًا وعمليًا وأمّا شكليا فيختلف بعضها عن بعض.
أوّلاً: الأحزاب السياسية وسنتعرّض لها هنا بلمحة عابرة .
ثانيًا: المظاهرات وقد تعرضت لها في مقال مستقل .
ثالثًا: حرية الرأي (الكلمة) أو بمعنى آخر إدارة الرأي العام والتحكم به عن طريق المعارضة السياسية داخلية كانت أو خارجية ضد مفردات السلطة وأوّلهُنّ رئيس الدولة وفريقه وأعوانه عمومًا وهي موضوعنا في هذا المقال، مع أنّ كل هذه المظاهر تشترك في أساس مهم وتقوم عليه ألا وهو انتقاد السلطة (ولي الأمر) علانية أمام الناس.
المظهر الأوّل: الأحزاب: وأُلمح لها هنا إلماحةً فقط، فعندما ننظر في علاقة الراعي بالرعية فإن رباطها هو الولاء أمّا الأحزاب فولاء أعضائها لا يكون إلّا للحزب ورئيسيه وليس لرئيس الدولة وإلّا لانهار مفهوم الحزب لأنّ الولاء لا يصدق ولا يكون فاعلاً في الذمة إلا إذا صار متجهًا لعين واحدة لا لأعيان متعددة؛ لذلك ترفض العقيدة الحزبية وبالتالي أعضاء الحزب (الحزبيون) أن يكون رئيس الدولة من غيرهم أو من غير من اختاروه ولا يهمهم أن تجتمع كلمة الناس على واحد وهذا هو عين مطلب الخوارج؛ ولكنه أتى هنا مُقنّنا فيحق لهم في نظامهم الاعتراض على تسلم رئيس الدولة سدة الحكم والطعن في الاختيار بأنّه مُزوّر مثلا على ما فيه هذه الطريقة السقيمة في اختيار ولي الأمر العام من ملاحظات وتناقضات ألا وهي طريقة الانتخابات.
المظهر الثاني: المظاهرات: وهي تهيئة وتعويد الشارع أو العامة من قِبل المعارضين السياسيين لإعلان انتقادهم لولي الأمر وقراراته ليتم استغلال الثقل الشعبي كما قال سلمان العودة في مؤتمر النهضة (الجماهير لا يجب أن تكون لها رؤية فقط عليهم العمل).
المظهرالثالث: القناة الكبرى للمعارضين السياسيين: وهو موضوع المقال فنجده يتجلى في الإعلام بجميع أنواعه بما يسمى حرية الكلمة والتأثير على الرأي العام وقيادته وهو ظاهر في البيئة الخليجية بشكل واضح أكثر من ظهور الأداتين السابقتين والسبب في ذلك عدم تقبل الأداتين السابقتين بقدر ما تقبل الناس الكلام في الإعلام؛ فاتجه من يُسّمى بالمعارضين السياسيين إلى الدول الغربية الحاضنة لتفعيل هذا المظهر وهذا الشكل، ولا شك أنّ الانتقاد الإعلامي وحرية الكلمة أو حرية الرأي هي مفرد من مفردات الليبرالية وأهل الأهواء قديمًا.
لذلك وجدنا الخوارج عندما ثارت فتنة ابن سباء ذهبوا إلى صبيغ ليخرج معهم وهو الذي كان يتكلم في القرآن بما يراه (حرية رأي) وكان قد ضربه وحبسه عمر رضي الله عنه على ذلك فرفض أن يخرج معهم وقال: (لا… فقد أدبني العبد الصالح) يقصد عمر رضي الله عنه فتوجُّه الخوارج لصبيغ يعني وجود مشترك بينه وبين الخوارج.
وصبيغ لم يُعرف إلّا بحرية الرأي في تفسير القرآن؛ إذًا الخوارج يتوجهون إلى كل من اتخذ حرية الرأي والكلمة له منهاجًا وبالتالي سيكون منهجه على غير الكتاب والسنة وإن تشدق بالكتاب والسنة وهذا المشترك بين صبيغ قبل توبته وبين الخوارج هو أحد أهمّ المشتركات بين الخوارج والديمقراطيين .
إنّ حرية الكلمة كما يزعمون في المفهوم الديمقراطي تتجهة للدولة و خصوصا لقرارات وليّ الأمر وسياسات الدوله وبالأخص المالية ثم السلطوية والهدف الأخير هو الطعن في شرعية ولاية ولي الأمر، وذلك بعد نقد ما تقوم عليه الدولة من أُسس دينية وثقافية تكون مساهمة في اجتماع الكلمة.
رغم تباعد السنين بين الخوارج إلّا أنّ المبدأ عندهم واحد فمن معاني الإعلام معنى الإظهار قال ابن سبأ لأتباعه في حق الخليفة الراشد عثمان رضي الله عنه ودولة الإسلام [إن عثمان أخذها بغير حق وهذا وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم (يقصد عليا) فانهضوا لهذا الأمر فحركوه وابدأوا بالطعن على أُمرائكم وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تستميلوا الناس وادعوهم لهذا الأمر] تاريخ الطبري 2/647 باختصار)
هذا هو [دستور الخوارج] على مرّ السنين. وهذا الدستور الثقافي الفكري للخوارج هو الذي قننته الديمقراطية في عصرنا الحديث؛ ويتلخص في محورين:
الأوّل: ويتكون من ثلاث نقاط وهي:
الأولى: الطعن في شرعية ولاية ولي الأمر وأحقيّته.
الثانية: الإدعاء باختيار شخص أو كتلة أو جماعة قريبة لقلوب الناس كإختيار ابن سبأ ومن معه لعلي رضي الله عنه وهم الذين قتلوه فيما بعد.
الثالثة: تحريك هذه الدعوى بين الناس بإثارتها وأدلجتها إعلاميًا.
والمحور الثاني: ويتكون من أمرين:
الأوّل: الطعن في قرارات ولي الأمر .
الثاني: إضفاء صبغة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على هذا الطعن في ولي الأمر وقراراته لاستمالة الناس أي التأثير على الرأي العام و امتلاكه فعنصر الرأي العام مهم عند بداية المعارضة السياسية؛ بل إنّ الرأي العام هو من يعذي المعارضة ويقويها، فقول ابن سبأ (فحركوه) وقوله (اطعنوا) وقوله (اظهروا) وقوله (تستميلوا الناس) كلها تصب في مصب الإعلام بكل أشكاله للتأثير على الرأي العام والمعارض السياسي تجده دائماً لا يخرج عن الحالة التي أمر ابن سبأ بها فهو ينهض فيحرك الساكن أمام العامة ويطعن في قرارات الدولة وسياساتها علانية باسم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليملك الرأي العام وهذا مهم في الفكر السياسي الديمقراطي.
فمثلاً أُمراء وولاة عثمان أتوا بقرار من عثمان إمّا إقرارًا لمن قبله أو إنشاءً من عنده فعندما تطعن فيهم فإنك تطعن فيمن ولّاهم ولو كان طعنك هذا باسم الإصلاح، لذلك تجد الخارجي المسمى بالمعارض السياسي يظهر بين الناس بمظهر المريد للخير وهو على هذه الحال إلى أن يُنهى ويُمنع من إثارة الفتن ويُضَيّق عليه فيذهب إلى حاضنة أُخرى وهنا تتضح وتظهر الإنتكاسة الفكرية والإمتساخ في الهوية.
وهذه الحاضنة دائما تتمثل في دول أُخرى وكيانات وتكتلات لا تريد الخير لبلد المعارض وتستقطب من تظن أنّ عنده استعداد للمعارضة وذلك عند إبدائه وتطبيقه لدستور الخوارج الذي قعّده ابن سبأ و بدايته النقد العلني لسياسات ولاة أمره؛ بل إنّ الأمر يتعدى أكثر من ذلك؛ فتجد الحاضنة تغري وتغوي أبناء الوطن بعدة إغراءات عندما تسمع أنّ دولة هذا المُعارِض أو ذاك قد ضيقت عليه لأعماله المخالفة لأصول الدين و لمصلحة الوطن ولمصلحته هو وهنا وجه من وجوه الإمتحان، ولقد تعرض لمثل هذا الإمتحان مع فارق التشبيه الصحابي الجليل كعب ابن مالك رضي الله عنه ولكن كعب رضي الله عنه يمثل هنا الوطنيّ الذي لايبيع دينه ولا وطنه بأي ثمن.
فإنّ كعب بن مالك لما هجره النبي صلى الله عليه وسلم والمجتمع بعامة فمرّ هو ومن معه بمحنة عظيمة ممن هجرهم صلى الله عليه وسلم وهجرهم باقي أفراد المجتمع، وإذا كانت هذا حالة صعبة جدًا على الكاره لوطنه وقيادته فما بالك بالمحب لدينه وقيادته ووطنه كيف ستمر عليه هذه الحالة.. نعم لقد مر كعب بن مالك رضي الله عنه بهذه الحالة، وبهذه الأزمة؛ بل اشتدت الأزمة عليه لدرجة أن أتاه خطاب من ملك الغساسنة (إنّا قد علمنا أنّ صاحبك قد جفاك فالحق بنا نواسك ) فقط مواساة ليس لتشكل معارضة سياسية كلا بل فقط للمواساة لكن هذه الألاعيب لا تنطلي على المؤمن الذي أحب دينه ووطنه بل إنّ كعبا يعد ذهابه إلى ملك غسّان لمجرد المواساة امتحان من الله لمدى صدقه وإيمانه قال كعب: (فقلت هذا أوّل البلاء فتيممت بها شطر التنور فسجرتها) وهذا فقه عظيم من كعب وتوفيق من الله له وفيها درس لمن أخذ وطنيته كما أمر الله بها بأنّها من دين الله وأنّها سمع وطاعة وبيعة وعهد وميثاق سيُسأل عنه يوم الدين.
فكون كعب يُحرق ويسجر كتاب ملك الغساسنة ويقطع كل سبيل بينه وبين أعداء دينه ووطنه درس لأبناء الوطن بأن يقطعوا كل اتصال بينهم وبين من يدعوهم باسم حرية الكلمة وحرية الرأي ويريد لوطنهم الشر ولو لبست دعواه لبوس الخير فالمؤمن يتعامل مع أُمور الحياة وخصوصا في أمور أصول الدين ومنها الولاية العامة على أساس من القواعد لا على أساس من الوقائع لأنّه إذا تبنّى الوقائع وترك القواعد هلك وصار في كل يوم له دين ورأي.
أمّا إذا تعامل مع الوقائع بالقواعد نجى وثبت على الحق فكعب كان أمام واقعة مؤلمة، ولكن كان في قلبه قاعدة مُحققه فتعامل مع الواقعة المؤلمة بالقاعدة المحققه فنجا وهذه هي حال السلفي دائمًا يلبس نظّارة القواعد لا الوقائع أمّا وعلى سبيل المثال نجد الخوارج أو من تُمَلّحُهم التيارات الحزبية فتسميهم معارضين نجدهم يستعملون الوقائع ويُجيّرونها لصالحهم إمّا بالكذب والتدليس أو بالتضخيم لكي تصل بهم إلى هدفهم المراد وكل ذلك بأسم الحرية التي تدعمها الثقافة الغربية الفردية بوجهها الليبرالي وبذراعها الديمقراطي لقد أسست الحضارة الغربية للفكر الخارجي وزوقته وصورته ثقافيًا بأنّه بناء جديد للدولة وللمجتمعات ومطالبة بالحق ودفاعا عن المظلومين وهو في الحقيقة هدم للمجتمعات لتبقى الفردية الإبليسية هي المسيطرة على الدول والمجتمعات ولكن المعارضين السياسيين لا يعلمون.
فمن المسلمات العقلية أنّ المجتمعات لا تُبنى إلّا من الداخل، فالمجتمع لا يُبنى إلّا بعقيدة وبمكون ثقافي أصيل وليس بطارئ من الخارج لأنّه إذا كانت المعارضة هي التي ستبني المجتمع وكيانه السياسي أو ستشارك فيه فإن الدولة الحاضنة لهذا المعارض السياسي سيكون لها بصمة وحضور في هذا البناء بثقافتها واستخباراتها وسيكون هذا البناء الجديد مرتبط بها وتحت تأثيرها فأين هدف هذا المعارض وآماله التي كان يعلنها ويتشدق بها لقد صار وطنه رهن هذه الدولة الحاضنة فبعد أن احتوت هذا المُعارِض وأخضعته لقوانينها انتقلت إلى احتواء وطن هذا المعارض والتحكم فيه .
لقد عمل الغرب جاهدًا لدعم ثقافة المعارضة السياسية وتقنينها وإحاطتها بقدسية مُستغربة للوهلة الأولى لكن عندما يتبين لك كيف استعمر الغرب دُولا وتحكم بها بسبب احتوائه للمعارضين حتى ولو كان تحكمًا جزئيًا؛ فإن الغرب يعتبره نصرًا وتقدمًا.
إنّ المعارضة السياسية في الحقيقة قد تعدت مراحل الخروج الأولية إلى المراحل النهائية ألا وهي منازعة ولي الأمر في السلطة؛ فليس بالضرورة أن يدعو المُعارِض السياسي (الخارجي) إلى نفسه بالإمامة أو الرياسة ولكن يكفي في ذلك أن يكون من مطالبه تغيير شكل الحكم من ملكي إلى جمهوري أو ملكي دستوري أو… إلخ.
فهذه منازعة للسلطان في الأمر والمنازعة بلا شك أنّها نقض للبيعة وعندما ننظر في المفهوم الحقيقي للمعارضة السياسية في شكلها نجد أنّها منازعة لولي الأمر في أمره.
ولكن الغريب في الأمر أنّك عندما تحتج على بعض المعارضين السياسين بأن هذا خروج يقول أنا لا زالت في عنقي بيعة لولي أمري وكأن البيعة إدعاء فقط يسهل إثباته عند من كان معارضًا، فتجده يقول كيف تقول لي بأنّي معارض وهنا يقع اللبس عند البعض فنقول إن كان مقصودك الإصلاح فقد بين الإسلام لك الطريقة والشكل الشرعي للنصيحة وحدده لك وجعل ذلك من أصول الدين، لكنّ فعلك فعل الخوارج وهو أنّك في حقيقة الأمر لم تتبع الطرق الشرعية واستعنت بقوى ليست من مجتمعك وليس لها بيعة لولي أمرك الذي خرجت عليه وهذا هو عين الخروج.ا.هـ
نخلص فيما سبق إلى عدة أمور:
١- أنّ الديمقراطية أسست للخروج على ولي الأمر ثقافيًا وهيئت ذلك قانونيًا في أنظمتها.
٢- أنّ الأحزاب والمظاهرات والمعارضين السياسيين بدعوى حرية الكلمة كلها تحمل روح الخروج على ولي الأمر، بل تقوم عليه.
٣- أنّ ابن سبأ اعتمد على أسلوب المعارضة السياسية وحرية الكلمة بحجة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
٤- أنّ كلمات ابن سبأ في التحريض على عثمان رضي الله عنه صارت دستورا للخوارج على مر السنين والعصور.
٥- أنّ أهل الرأي والأهواء ومن يُحكّم رأيه وعقله بحجة أنّه يُحكّم العقل الصريح يلتقي مع الخوارج قديمًا وحديثًا لوجود المشترك الثقافي ألا وهو حرية الرأي كما في قصة صبيغ.
٦- أنّ الوطني الذي تنطلق وطنيته من دينه وأصول عقيدته لا يخون بلده ووطنه أبدا كما في قصة كعب، وأنّ الوطني الحق يقطع الطريق دائما على أعداء وطنه.
٧- أنّ إعمال الوقائع بدل القواعد في رؤية المرء سيجعل القواعد عنده تبع للوقائع وهو منهج الخوارج وأهل الأهواء أمّا إعمال القواعد على الوقائع والتعامل معها على أساس من القواعد هو منهج أهل السنة.
٨- أنّ التكييف الفقهي لِنازلة وظاهرة (المعارضة السياسية) يجعلها في قمة درجات الخروج التي تصل إلى المنازعة المباشرة لأهل الأمر (وأن لا ننازع الأمر أهله).
٩- وغير ذلك من الدروس.
اقرأ المزيد
فالمتأمل في بعض الشخصيات القلقة وبرزوها في التاريخ الإسلامي قد تظهر له جوانب أخرى في حياتها
رد الشيخ يوسف بن عيد، الباحث في الأمن الفكري، على فتوى الدكتورعبدالله بن محمد المطلق بإجازة إمامة المرأة لزوجها في صلاة التطوع في المنزل.
أكد الشيخ الدكتور راشد بن رمزان الهاجري، أن نظام المملكة العربية السعودية قائم على كتاب الله جل وعلا وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم
يُعرف المرء بطرحه نتيجة ما يمليه عليه اتجاهه، سواء كان التأثير قادمًا من لب اتجاهه أو من جهة ما يخدم اتجاهه من الخوادم الفكرية والسلوكية
سألني أحد الأفاضل: يا شيخ محمد ..نريد حلا صريحا أمام هذه الأحداث يُخرج بعض السلفيين من الحيرة أمام هذا التهييج الإعلامي الإخواني!!
فإنَّهُ لَا يخفَى علَى كلِّ مُسلمٍ ومسلمةٍ مكانةَ السنَّةِ النبويةِ وحجّيتَهَا وشرفَهَا، فإنَّ شرفَهَا منْ شرفِ صاحبِهَا -صلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليْهِ-، ومَنْ تأمَّلَ طريقةَ القرآنِ