التعامل مع أهل الكتاب


بقلم – الشيخ الدكتور منصور العضيلة

 

الحمد لله الذي خلق الخلق أجمعين ورفع منهم من استقام على صراطه المستقيم، وأشهد أن لا إله إلا الله القوي المتين القائل: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ"،  وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله القائل: " ليَبْلُغن هذا الأمر ما بلغ اللَّيل والنَّهار، ولا يترك الله بيت مَدَرٍ ولا وَبَرٍ إلَّا أدخله اللهُ هذا الدِّين، بِعِزِّ عَزِيزٍ أو بِذُلِّ ذَليلٍ"، وقال صلى الله عليه وسلم: "لا فرق بين عربي ولا أعجمي، ولا أبيض ولا أسود؛ إلا بالتقوى".

خلق الله الناس من نفس واحدة ودعاهم إلى التعارف والتعاون فيما بينهم دون تعصب أو تشدد ومن ثمة جاء الدين الإسلامي مفتوحًا على جميع الملل والنحل؛ ولم يفرض النبي صلى الله عليه وسلم رسالته عليهم إيمانًا بقوله تعالى: "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ"؛ بل ضمن لهم النبي صلى الله عليه وسلم ما يملكون من قليل أو كثير، كما ضمن لأسقف بني الحارث بن كعب وأساقفة نجران.

وسار الصحابة رضوان الله عليهم على خطى نبيهم صلى الله عليه وسلم يعاملون أهل الكتاب معاملة إنسانية حضارية منفذين ما أمر به ربهم ورسوله، ويكفينا التذكير بالعهدة العمرية التي كتبها عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأهل القدس؛ فالسلوك الإسلامي الحضاري الذي لم يكن دينًا غاليًا أو تشدد أو عنصرية؛ وإنما كان دين الجميع؛ يتقدم المسلم لحماية غير المسلم.

قال ابن حزم إمام الظاهرية: "إن من كان في الذمة وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه، وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع والسلاح ونموت دون ذلك صونا لمن هو في ذمة الله تعالى وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم فإن تسليمه دون ذلك إهمال لعقد الذمة"، وقال بهذا المالكية. 

إن غاية الإسلام في التعامل مع أهل الكتاب، هي غاية إنسانية نبيلة سعى من خلالها إلى بناء مجتمع وإعمار الأرض وانتفاع فيما عند الآخرين والقيم الإنسانية مع احترام الشعائر الدينية دون المساس بالذات الإلهية أو الأنبياء أو الكتب المقدسة أو الرموز المحترمة.

وظلت الدول الإسلامية تحافظ على حقوق أهل الكتاب والمعاهدين على مبادئ سامية:

أولًا: مبدأ احترام النفس البشرية حية أو ميتة: مرت جنازة أمام النبي صلى الله عليه وسلم فقام، فقالوا إنها ليهودي، قال أليست نفسًا.

ثانيًا: مبدأ عدم الإكراه في الدين: قال أهل العلم إن لم يقاتلوا المسلمين والتزموا بالقيم الإنسانية؛ فلا إكراه في الدين؛ لكن يدعون إلى الإسلام بإظهار محاسن الدين الإسلامي وأخلاقه السامية.

ثالثًا: مبدأ أن الأصل في الإسلام السلام لا الحرب إلا في حالة الضرورة: قال البروفيسور البريطاني المسلم تيم جاكوزي الأستاذ بجامعة مانشيستر في بريطانيا، لبني جلدته: "كيف تزعمون أن الإسلام دين حرب، وأن محمدًا جاء بالدماء، وعدد معاركه 27 معركة، قتل بها مائتين واثنين وستين شهيدًا، وعدد قتلى أعداءه ألف واثنين وعشرين قتيلًا، ونحن قتلانا وقتلى أعداءنا في الحرب العالمية الأولى سبع وثلاثين مليون، وفي الثانية أربعة وخمسين مليون؛ فكيف نتهم دين محمد بأنه دين دماء، فالإرهاب لا دين له ولا وطن له".

وذكر البروفيسور أن المسلمين شاركوا معنا في الحرب العالمية الأولى أربعمائة ألف مسلم، وفي الثانية ستة مائة ألف مسلم، وعجبت من دفاعه عن الإسلام أكثر من أهل الإسلام.

وفي الثالث من رجب لعام 1439 أسلم السيد هارون عبادي الملياردير الأمريكي بعد أن كان يهوديًا حيث أشهر إسلامه في مكتب الدكتور محمد بن ناصر الخزيم نائب إدارة الحرمين الشريفين، والذي أوصاه بأن يكون بارًا بوالديه، وأن يظهر سماحة الإسلام وعدله ووسطيته.

رابعًا: مبدأ العدل والقسط للمسلمين وغير المسلمين: كما ورد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومخاصمته لليهود على درعه أمام شريح، وحكم شريح بالدرع لليهودي.

والعام الماضي في محكمة أبها اتهم نصراني بالسرقة ولكن ليس عليه دليل ولما وقف النصراني أمام القضاء، قال له القاضي: "سأطلق سراحك لأنه لا يوجد بينة عليك؛ فأطلق"، فلما ذهب النصراني إلى خارج المحكمة مطلقًا سراحه، رجع وطلب مقابلة القاضي، قال له: "أعلم علم اليقين أنك كنت ستحكم عليّ بعد أن قبض عليّ مع أنني بريء من ذلك، لكن لما برأتني علمت أن هذا الدين هو الصحيح، دين عدل وقسط"، فأسلم ونطق بالشهادة.

خامسًا: مبدأ رعاية الحقوق لغير المسلمين في معاملاتهم وتعاونهم مع المسلمين: لما ذهب ابن تيمية إلى التتار ليخرج أسرى المسلمين ويتفاوض معهم، أخرجوا له المسلمين، فقال من بقي؟، قالوا: لم يبق إلا أهل الكتاب، قال: ابن تيمية أهل الكتاب قبل المسلمين يخرجون لأنهم أهل ذمتنا فلا نرضى إلا بخروجهم قبل المسلمين.

أيها الإخوة.. قال نبيكم صلى الله عليه وسلم: "إنكم لا تسعون الناس بأموالكم، ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق"، إن الشعوب تقدر وتحترم من يحترم دينه ويتحلى بالمثل العليا التي يتفق البشر عليها.

ومن الأخلاق الكريمة والسجايا الطيبة، ما أروع أن يقف المسلم في بلاد الغرب في مكان عام ويفرش سجادته ويتوجه إلى القبلة ويعبد ربه؛ وتجد من يقف من هؤلاء الغربيين ويشاهد في صمت تقديرًا واحترامًا له؛ وذلك لأن من قوي صلته بالله أذعن الله له البشر.

وإنك لتفرح وتقف احترامًا وتقديرًا لتلك المرأة المسلمة التي أسدلت حجابها وتسير بكل ثقة وشموخ ما يكون منك إلا أن تدعو لها بأن يحفظها الباري.

ولقد صدق عمر رضي الله عنه، قال: "نحن قوم أعزنا الله بالإسلام؛ فمهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله".    


اقرأ المزيد

الأبعاد الفكرية للحركة المثلية ومستقبل المجتمعات

قبل أن نتعرف على الأبعاد الفكرية لهذه الحركة التي تنشط مؤخرًا بشكل ملفت عالميًا على جميع الأصعدة سياسيًا وإعلاميًا وسينمائيًا

التعامل مع الطلاب في أول يوم دراسي .. كيف يكون؟

يشد بنا الحديث عن أهم يوم من ايام التعليم عند جميع الطلاب والطالبات ..

كلمة عن نشر البكائيات بسبب الإغلاق المؤقت للمطاف

فمع تداول صور المطاف وهو خال من الطائفين بسبب عمليات التعقيم والحفاظ على حياة الناس وصحتهم من انتشار وباء كورونا

كورونا بين الابتلاء والعقوبة مع الصبر واتخاذ أسباب العافية

الحمد للهِ العظيمِ القادر، الفعَّالِ لِمَا يُريد، الذي خلَق فقدَّر، ودبَّرَ فيسَّر، فكُلُّ عبدٍ إلى ما قَدَّرَه عليه وقضَاه صائر، لا يُسألُ عمَّا يَفعل وهُم يُسئَلون، وأشهد أنْ لا إله إلا الل

توجيهات ووصايا حول حادثة الهجوم على معامل النفط في بقيق وخريص

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا

احذر هذا المنزلق

قال الله تعالى : {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ

تعليقات


آخر الأخبار