الإِخْوَانُ القَعْدِيَّةُ وَجَمْعِيَّاتُ تَحْفِيظِ القُرْآنِ


بقلم -  أبي عمرو محمد بن علي الكريمي

 

الحَمْدُ للَّه الَّذِي جَعلَ القرآنَ نُوراً لَا يُطْفَأُ مِصْبَاحُهُ، وَسِرَاجًا لَا يَخْبُو تَوقُّدهُ، وَمَنْهَجاً لَا يَضِلُّ سَالِكَهُ ، وفرقاناً لَا يَخْمَدُ بُرْهَانهُ، وتبيانًا لَا تُهَدَّمُ أَرْكَانهُ، وَشِفَاءٌ لَا تُخْشَى أَسْقَامهُ، وعِزَّا لَا يُهْزَمُ أَنْصَارهُ، وحقَّا لَا يُخَذِّلُ مَنْ عَلَى فِقْهِ السَّلَفِ الصَّالِح فَهِمَهُ وَفَسَّرَهُ؛ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ كَانَ خُلَقَهُ القُرآنُ وَعَلَى آلِهِ وصحابته الأَخْيَارُ وَمَنْ سَارْ عَلَى نهجههم وَفَهْمهُمْ لِكِتَابٍ اللهُ.

أَمَّا بَعْدُ:

 

قال تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [البقرة: 78)

 

قَالَ الشوكاني قِيلَ: "(الأَمَانِيُّ : التِّلَاوَةُ) أَي: لَا عِلمٌ لِهُمْ إِلَّا مُجَرَّدِ التِّلَاوَةِ دُونَ تَفَهُّمٍ وَتَدَبَّرَ". (1)

 

وقد أُبْتُلِيَتْ الأُمَّةُ فِي عُصُورِهَا المُخْتَلِفَةُ بِالكَثِيرِ مِنْ الأُمِّيَّيْنِ مِنْ حَفَظَةِ كِتَابِ اللهِ؛ الَّذِينَ كَانُوا رُؤُوسًا فِي الفِتَنِ وَدُعَاةٍ إِلَى الضلالة وَشَرٌّ عَلَى الإِسْلَامِ ، وَكَانَ مِنْهُمْ رَأْسُ الخوارج عَبْد الرَحْمَنِ بِنْ ملجم - قَاتِلُ عَلِيٍّ بِنْ أَبِي طَالِب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. - الَّذِي كَانَ مَنْ اتَّقَى النَّاسَ فِي عَصَرَهُ وَأَحْفَظُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ ثُمَّ كَانَ مِنْهُ مَا كَانَ  مِنْ الخُرُوجِ عَلَى عَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وَقَتْلُهُ ، ثُمَّ كَانَتْ فِتْنَةُ أتبَاعه مَنَّ الحِفَاظُ تَتَوَالَى فِي كُلِّ عَصْرٍ وَمِصْرَ، حَتَّى كَانَتْ فِتْنَةُ اِبْنٍ الأَشْعَثِ وَالقُرَّاءُ الَّتِي وَقَعَتْ فِي دَيْرِ الجَمَاجِمِ وَالَّتِي ذَهَبَ فِيهَا أَكْثَرُ مِنْ مِئَتَيْ أَلْفُ مُسْلِمٍ.

 

وَكَذَلِكَ مَا حَصَلَ مَنْ غَيْرَهِمْ مِنْ الأَسْمَاءِ اللَّامِعَةُ وَمَا حَصَلَ مِنْهَا مِنْ فتن وقَتْلٍ وَسَفْكٍ وَاِنْتِهَاكٍ لِلأَنْفُسِ ، وَالأَعْرَاضُ وَالأَمْوَالُ ، وَهَكَذَا دَوَالَيْكَ عَلَى مَرِّ العُصُورِ.

 

و"مَعَ أَنَّ فُقَهَاءَ القُرَّاءِ هُمْ أَهَّلُ الاِسْتِقَامَةِ وَهُمْ الأَكْثَرُونَ فِي الصَّدْرِ الأَوَّلِ ، وَهَمَ خِيَارُ الأُمَّةِ وَعُدُولِهَا ، وَتَخْرُجُ مِنْهُمْ أَئِمَّةُ الهُدَى أَعْلَامَ السَّنَةَ، وَالفِقْهُ فِي الدِّينِ، وَكَذَلِكَ فِي كُلِّ العُصُورِ، فَإِنَّمَا تُسْعِدُ الأُمَّةُ بِقُرَّائِهَا إِذَا فَقَّهُوا، وتَشْقِى بِقرائِهَا إذا جَهِلِوا (2).

 

عَنْ حُذَيْفَةَ بِنْ الِيمَانِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِنَّ أُخَوِّفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ قَرَأَ القُرْآنَ، حَتَّى إِذَا رُئِيَتْ بَهْجَتهُ عَلَيْهِ، وَكَانَ ردءًا لِلإِسْلَامِ غَيْرَهُ إِلَى مَا شَاءَ اللهُ، فَأَنْسَلخَ مِنْهُ، وَنُبَذَه وَراءَ ظَهْرِهِ، وَسَعى عَلَى جَارِهِ بِالسّيفَ، وَرَمَاه بِالشَّرَكِ).

 

قَالَ: قلتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ أَيُّهُمَا أُولَى بِالشِّرك: المَرْمِيُّ أَمْ الرَّامِي؟

 

قَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (بَلْ الرَّامِي). (3)

 

وَمِنْ المَصَائِبِ التِي حَلَّتْ بِالأُمَّةِ مِنْ جَهَلَةٍ قُرَّائِهَا ما كَانَ من خَوَارجِ الأَمْسِ الَّذِينَ تَسَارَعُوا فِي حِفْظِ القُرْآنِ بِلَا فَهْمٍ ولا فِقْه صَحِيح، وَاِهْتَمُّوا بِحِفْظِ حُرُوفِ القُرْآنِ وَتَقْوِيمَهَا وَتَسْوِيَتَهَا تَسْوِيَةِ القَدحِ ، وَأَهْمَلُوا تَعَلُّمُ أَحْكَامِ القُرْآنِ وَتَفْسِيرِهِ كَمَا أثرَ عَن السَّلْفِ؛ فَوَقَعُوا فِي الفِتَنِ، وَاِنْقَادُوا خَلْفَ كُلٍّ نَاعِقٍ وَكَانَوَا سَبَبًا فِي تَسَلُّطِ الأَعْدَاء عَلَى بِلَادٍ المُسَلمِينَ وَإِيقَافِ فُتُوحَاتِهِمْ..

 

عَنْ اِبْنِ عَبَّاسَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " قَدِمْ عَلَى عُمْرِ بِنْ الخَطَّابُ رَجُلٌ ؛ فَجَعَلَ عَمْر يَسْأَلُهُ عَنْ النَّاسِ ، فَقَالَ: يَا أَمِير المُؤْمِنِينَ قَدْ قَرَأَ القُرْآن مِنْهُمْ كَذَا وَكَذَا .

 

قَالَ اِبْنُ عَبَّاس فَقُلْتُ: وَاللهِ مَا أَحِب أَنْ يَتَسَارَعُوا يَوْمهمْ هَذِهِ المُسَارَعَةُ ، قَالَ: فَزَجَرَنِي عُمْرٌ ثُمَّ قَالَ: مَه .

 

فَانْطَلَقْتُ إِلَى مَنْزِلِي مُكْتَئِبًا حَزِينًا، فَبَيْنَمَا أَنَا كَذَلِكَ، إِذْ أتَأَنى رَجُلٌ، فَقَالَ: أَجِبْ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ.

 

فَخَرَجْتُ فَإِذَا هُوَ بِالْبَابٍ يَنْتَظِرُنِي، فَأَخَذَ بِيَدَي فَخَلَا بِي فَقَالَ: مَا الَّذِي كَرِهْتَ مِمَّا قَالَ الرَّجُلُ آنِفًا .

 

فَقُلْتُ: يَا أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ مَتَى يَتَسَارَعُوا هَذِهِ المُسَارَعَةَ يَحْتَقُوا، وَمَتَى يَحْتَقُوا يَخْتَصِمُوا، وَمَتَى يَخْتَصِمُوا يَخْتَلِفُوا، وَمَتَى يَخْتَلِفُوا يَقْتَتِلُوا.

 

قَالَ: لِلهِ أَبُوكَ إِنْ كُنْتَ لِأُكَتِّمَهَا النَّاسُ حَتَّى جِئْتَ بِهَا ". (4)

 

وَمَعْنَى المُحَاقَّةِ: أَنَّ كُلَّ مِنْ المُتَخَاصِمِينَ يَقُولُ الحَقَّ مَعَي.

 

وَعَنِ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ رَحِمَهُ الله تَعَالَى قَالَ: "دَخَلَ عُمَر ذَاتَ يَوْمٍ فَجَعَلَ يُحْدِثُ نَفْسَهُ؛ كَيْفَ تَخْتَلِفُ هَذِهِ الأُمَّةُ وَنَبِيُّهَا وَاحِدٌ، وَقِبْلَتُهَا وَاحِدَةٌ؟.

 

فَقَالَ اِبْنُ عَبَّاسَ: يَا أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ: إنا أَنْزَلَ عَلَيْنَا القُرْآنُ فَقَرَأْنَاهُ وَعَلِمْنَا فَيَمَ أُنْزِل، وَإِنَّهُ سَيَكُونُ بَعْدنا أَقْوَام يقرءون القُرْآنُ؛ وَلَا يَدْرُونَ فَيَمَ أَنْزلَ، فَيَكْوُن لَهُمْ فِيه رَأْيٌ، وَإِذَا كَانَ لهمْ فِيهُ رَأْيٌ اخْتَلَفُوا، فَإِذَا اخْتَلَفُوا اقتتلوا".(5)

 

كَمَا قَالَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "مَا مِنْ أَحَدٍ قَرَأَ القُرْآنَ وَلَمْ يَعْلَم تَفْسِيرَهُ إِلَّا بِمَنْزِلَةِ الأعرابي يَقْرَأُ وَلَا يَدْرِي مَا هُوَ". (6)

 

وَقَالَ اِبْنُ مَسْعُودٍ: "كَانَ الرَّجلَ مِنَّا إِذَا تَعلَّمَ عَشْر آَيَات لَمْ يُجَاوِزْهُنَّ حَتَّى يَعْرِفُ مَعَانِيَهُنَّ وَالعَمَلُ بِهِنَّ، وَقَال مَسْرُوق: كَانَ عَبْد الله يَقْرَأُ عَلَيْنَا السُّورَةَ ثُمَّ يُحْدِثنَا فِيهَا وَيُفَسِّرُهَا عَامَّة النهار". (7)

 

وَعَنْ مَالِك عَنْ نَافِع عَنْ اِبْنِ عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: "تَعَلَّمَ عمْر البَقَرَة فِي اِثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَة فَلِمَا خَتْمهَا نَحَرَ جَزوراً". (8)

 

قَالَ علماؤنا: مَعْنَى ذَلِكَ: "أَنَّهُ كَانَ يَتَعَلَّمُ فَرَائِضَهَا، وَأَحْكَامُهَا، وَحَلَالهَا وَحَرَامهَا، وَوَعْدهَا وَوَعِيدهَا وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِهَا".(9)

 

وَعَنْ الفَضِيلِ بِنْ عياض قَالَ: "لَنْ تَعْلَمُوا القُرْانَ حَتَّى تَعْرِفُوا إِعْرَابَهُ وَمَحْكَمَه ومتشابهه وَحَلَالُهُ وَحَرَامُهُ وَنَاسِخُهُ ومَنْسُوخُهُ...". (10)

 

وَعَنْ عَبْد العَزِيز بِنْ أَبِي حَازِم، عَنْ أَبِيهِ، أَنْ عَمَرَ بِنْ الخُطَّابَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: "مَا أَخَافُ عَلَى هَذِهِ الأُمَّة مِنْ مُؤْمِن يَنْهَاهُ إِيمَانه، وَلَا مَنْ فَاسِق بَيِّن فِسْقهُ، وَلَكِنَّي أَخَافُ عَلَيْهَا رَجُلًا قَدْ قَرَأَ القُرْآن حَتَّى أَذَلَقَهُ بِلِسَانِهِ، ثُمَّ تأوَّلَهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ". (11)

 

وَقَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ اِبْنُ تَيْمِيَّة رَحِمَهُ الله تَعَالَى: " كَانَ الإِمَامُ أَحْمَد يَقُول : أَكْثَرُ مَا يخطيء النَّاسُ مِنْ جِهَةِ التَّأْوِيلِ وَالقِيَاسِ ، وَلِهَذَا نَجِدُ المُعْتَزِلَةَ وَالمُرْجِئَةَ والرافضةَ وَغَيْرهمْ مِنْ أَهْلِ البِدَعِ يُفَسِّرُونَ القُرْآنَ بِرَأْيهمْ ومعقولهم ، وَمَا تأولوه مِنْ اللُّغَةِ ، وَلِهَذَا لَا تَجِدهُمْ يَعْتَمِدُونَ عَلَى أَحَادِيثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والصحابة وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةَ السَّلْفِ وَآثَارِهِمْ ، وَإِنَّمَا يَعْتَمِدُونَ عَلَى العَقْلِ وَاللُّغَةِ ، وَتَجِدُهُمْ لَا يَعْتَمِدُونَ عَلَى كُتُبِ التَّفْسِيرِ المَأْثُورَةِ وَالحَدِيثِ وَآثَارِ السَّلْفِ ، وَإِنَّمَا يَعْتَمِدُونَ عَلَى كُتبِ الأَدَبِ وَالكَلَامِ الَّتِي وَضَعْتهَا رُؤُوسهمْ". (12)

 

وَالعَجِيبُ أَنَّكَ  لَا تَكَادُ تَجِدُ فِرْقَةً مِنْ الفَرْقِ المُنْحَرِفَةِ الضَّالَّةِ إِلَّا وَقَادَتْهَا وَمُنَظِّرِيهَا مِنْ حَفَظَةِ كِتَابِ اللهِ وَمَعَ ذَلِكَ أَدْخَلُوا عَلَى الأُمَّةِ الإِسْلَامِيَّةِ الكَثِيرُ مِنْ البِدَعِ وَجَروهمْ لِلفِتَنِ والبَلايا والرَزايا وَلَا تَزَالُ الأُمَّةُ تتلظى بِشُرُورٍ فكرهمْ وَفَهْمهُمْ السقيم لِكِتَابِهِ إِلى قِيَامِ السَّاعَةِ.

 

كَمَا نَجِدُ أَنَّ من أَسْلَافَ الْخَوَارِجْ كَمَا قَالَ الإِمَامَ اِبْنُ حَزِمَ: "كَانُوا أعرابًا قَرَأُوا القُرْآنَ قَبْلَ أَنْ يَتَفَقَّهُوا فِي السُّنَنِ الثَّابِتَةِ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ أَحَدٌ مِنْ الفُقَهَاءِ، لَا مِنْ أَصْحَابٍ اِبْنِ مَسْعُودٌ وَلَا أَصْحَابُ عَمْر... وَلِهَذَا تَجِدهُمْ يُكَفِّرُ بَعْضَهُمْ بَعْضًا عِنْدَ أَقَلَّ نَازِلَةً تَنْزِلُ بِهِمْ مِنْ دَقَائِقَ الفُتْيَا وَصِغَارَهَا (13).

 

كَمَا كَانَوا سَبَبًا فِي حِفْظِ دَوْلَةِ الرَّوْمِ مِنْ السُّقُوطِ فِي أَيْدِي الدَّوْلَةِ الأُمَوِيَّةِ، وَالزَّحْفَ لِأَوْرُوبَا وَفَتْحُهَا؛ لَوْلَا اِنْشِغَالَهُمْ بِحُرُوبٍ الخوارج .

 

وَقَدْ سَارْ عَلَى نَهْجِهِمْ خَوَارِجُ العَصْرِ مِنْ أَفْرَاخِ الإِخْوَانِ المُسْلِمِينَ وَرخوم الصَّحْوَة الَّذِينَ نَشَرُوا فِكْر القَاعِدَةِ وَدَاعِش وَغَيْرَهُمَا مِنْ جَمَاعَاتِ التَّكْفِيرِ مِمَّنْ تَوَغَّلُوا فِي جَمْعِيَّاتِ تَحْفِيظِ القُرْآنِ طُلَّابًا وَمُعَلِّمِينَ وَتَسَارَعُوا فِي حِفْظِ القُرْآنِ؛ وَفَسَّرُوه بِعُقُولِهِمْ السَّقِيمَة أَوْ بِمَا تِيَسِّرُ لِهُمْ مَنْ كُتُبِ وَتَفَاسِير دُعَاةِ التَّكْفِيرِ كَقُطْبٍ وَالْبَنَّا والْمَوْدُودِي وَغَيْرَهِمْ وَانْصَرَفُوا عَنْ فَهِمَ السَّلَفِ الصَّالِح فَوَقَعُوا فِي التَّكْفِيرِ وَالتَّفْجِيرِ وَالجِهَادِ الغُيُرَ مُنْضَبِطٌ بِضَوَابِطِ الشَّرُعِ وَحَادُوا عَنْ التَّلَقِّي عَن العُلَماءِ وَنَادَوْا بِأَنَّهمْ أَهَّلَ الحقِ والاسْتِقامة، وَالغيْرَةَد عَلَى الدِّينِ وَرَموا العُلَمَاءَ وَالحُكَّامَ بِالكُفْرِ وَ الإِرْجَاءَ وَالمُدَاهَنَةَ؛ وَكَانُوَا كَاسْلاَفِهم الحرورية والأباضِية والأزارِقة .. سَبَبًا فِي تَسَلُّطِ الغَرْبِ عَلَى بِلَادِ المُسَلَّمِين؛ باِخْتِرَاقِ هَذِهِ الجَمَاعَاتِ وضَرْبِ الإِسْلَامِ بهم مِنْ الدَاخِلِ، وَوَقَفَ زَحْفَ الإِسْلَام إِلَى الغَرْبِ، بَلْ رِدَّة الكَثِيرِ مِنْ حَدِيثِي الإِسْلَامِ؛ بَعْدَ أَنْ شَوَّهَهُ هؤلاء بِأَعْمَالِهِمْ الإِرْهَابِيَّةِ وَالإِجْرَامِيَّةِ؛ الَّتِي خَطَّطَت لهَا وَدَعَمَتهَا المَاسُونِيَّة وَالصِّهْيُونِيَّة وَحَقَّقَتْ بِهِمْ أَهْدَافُهَا؛ وَهُمْ  لَا يَشْعُرُونَ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا .

 

وَلَقَدْ حَظِيتُ مَدَارِس وَ جَمْعِيَّاتِ تَحْفِيظِ القُرْآنِ الكَرِيمِ، وَإِذَاعَاتَهُ فِي المَمْلَكَةِ بدَعْمٍ مَادِّيٍّ وَمَعْنَوِيٍّ عَظِيْمٍ ، وَاِحْتِضَانٍ وَرِعَايَةٍ مِنْ وُلَاةِ الأَمَرُّ فِي هَذِهِ الدَّوْلَةِ - حَفِظَهُمْ اللهُ - الَّذِينَ جَعَلُوا كِتَابَ اللهِ وَحَفِظَهُ فِي مُقَدِّمَةً اِهْتِمَامَهُمْ بِصِفَتِهِ دسْتُورِ الأُمَّةِ وَمِنْهَاجهَا الَّذِي تَهْتَدِي بِهِ فِي كُلِّ أُمُورِهَا الدِّينِيَّةِ والدِنْيَّوِيَّةِ .. وَحرصُوْا عَلَى العِنَايَةِ بِكِتَابٍ اللّه تَعَالَى تَعَلُّمًا وَتَعْلِيمًا وَعَمَلاً وَتَطْبِيقاً وَطِبَاعَةً وَنَشْراً.

 

فِي المُقَابِلِ يَنْبَغِي آلَّا تُهْدِر هَذِهِ الجُهُودُ العَظِيمَةُ، وَأَنْ تُدَارَ وَتُقَادَ هَذِهِ المَحَاضِن التَّرْبَوِيَّة؛ بِمَنْ عُرفُوا بِسَلَامَةِ المَنْهَجِ وَالاِعْتِقَادِ ، وَإِنْ يُخْتَار المُعَلِّمُينَ فِيهَا بِعِنَايَةٍ، وَإِنْ تَتِمُّ مُتَابَعَة وَمُرَاقَبَة الفُصُولِ وَالحَلَقَاتِ مِنْ خِلَالِ الكَامِيرَاتِ الثَّابِتَة الَّتِي تَضْمَنُ مَا يُقَدِّمُ خِلَالَهَا؛ ليُكْرَّم المُحْسِنَ، وَيُسْتَبْعد المُسِيءَ؛ الَّذِي يَسْتَغِلّهَا لِنَشْرِ فِكْرٍ ضَالٍّ، أَوْ تَفْسِير وَتَأْوِيل مُخَالِف لِفَهْم سَلَّفْنَا الصَّالِحَ .

 

وعَلَى القَائِمِينَ عَلَى هذه الصُروح المُبَاركَةِ؛ العِنَايَةُ بِتَعْلِيمِ النَّاشِئَةِ القُرْآنَ وَالتَّفَقُّهَ فِي مَعَانِيهِ وَتَفْسِيرَهُ كَمَا أَثرَ عَن السَّلْفِ الصَّالِحِ، وَتَحْذِيرهُم مِنْ تَفَاسِيرِ الأُدَبَاءِ وَالمُفَكِّرِينَ وَأَصْحَابِ الأَهْوَاءِ؛ وَذَلِكَ أَكْثَرَ مِنْ العِنَايَةِ بِتَحْفِيظِهِ وَتَقْوِيمِ حُرُوفِهِ فَقَطْ .

 

كَمَا أَنْ عَلَيْهمْ مَسْؤُولِيَّة تَعْلِيمِه وَشَرْحَه فِي حَلَقَاتِ المَسَاجِدِ لِعَامَّةِ النَّاسِ، وَعَدَمُ الاِقْتِصَارِ عَلَى التَّحْفِيظِ لِتَضُمَّ حَلَقَاتِهُمْ الكَبِير وَالصَّغِير مِمَّنْ يَجْهَلُ تِلَاوَةُ القُرْآنِ عَلَى الوَجْهِ الصَّحِيح ، أو يَجَهْلُ فِقْهه وَتَفْسِيره..

 

كَمَا أَنْ عَلَيْهمْ مَسْؤُولِيَّة تَنْشِئَة حَفَظَةُ كِتَابِ اللهِ عَلَى اِحْتِرَامِ العُلَماءِ وَالأَئِمَّةِ وَالأَخْذِ عَنْهِمْ ، وَتَبْصِيرهمْ بِالفِتَنِ ، وَسُبُلِ التَّحَرُّزِ مِنْ الوُقُوعِ فِيهَا ، وَالبُعْدُ عَنْ تَتَبُّعٍ المُتَشَابِهُ ، وَالقَوْلِ فِي القُرْآنِ بِدُونِ عِلْمٍ ، وَاُلغُلَوِ فِي العَمَلِ بِدُونِ بَصِيرَةٍ ، وَتَحْذِيرهمْ مِنْ سُلُوكِ مَسْلَكِ الخوارج فِيه ؛ حَتَّى تَسْعِدَ بِهِمْ الأُمَّةَ وَتَجَنِّي ثَمَرَةِ تَعْلِيمِهِم كِتَابِ اللّه تَعَالَى.

 

وَمَا نَرَاهُ وَنَشْهَدُهُ اليَوْمَ مِنْ ضعْف إِيمَانِ بَعْضُ الطُّلَّابِ فِي الحِلْقِ، وَسُوءِ أَخْلَاقٍ بَعْضهمْ وَتَسَاهُلِ البَعْض، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ اِنْجِرَافٍ بَعْضهُمْ وَرَاءَ الفِتَنِ والمدلهمات؛ مَا هُوَ إِلَّا نَتِيجَةٍ حَتْمِيَّة لِعَدَمِ تَنَبُّه القَائِمُونَ عَلَى هَذِهِ المحاضن لِهَذَا الأَمْرِ وَإِهْمَالِهِمْ إِيَّاهُ، وَجَعَلَ هَدَفَهُمْ إِخْرَاجَ أَكْبَرِ عَدَدٍ مِنْ الحفَاظِ وَالقُرَّاءِ وَالَّذِينَ سُرْعَانَ مَا يَنُسونٌ مَا حَفِظُوا وَلَا يَرَى لِلقُرْآنِ فيهم من أثْرٍ  فِي خَلْقٍ أو عَمَل .

 

قَالَ عَبْد الله بِنْ مَسْعُود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ : "إِنَّكُمْ فِي زَمَانٍ كَثِيرٌ فُقَهَاؤُهُ، قَلِيلٌ قُرَّاؤُهُ، تَحْفَظُ فِيهُ حُدُود القُرْآنِ، وَتُضِيَّعُ حُرُوفَهُ؛ قَلِيل مِنْ يَسْأَلُ، كَثِير مِنْ يَعْطِي، يَبْدَؤُونَ أَعْمَالَهُمْ قَبْلَ أَهْوَائِهِمْ .

 

وَسَيَأْتِي زَمَانٌ قَلِيلٌ فُقَهَاؤُهُ، كَثِيرٌ قُرَّاؤُهُ، تُحْفَظُ فِيهُ حُرُوف القُرْآنِ، وَتُضِيَّعُ حُدُودَهُ، كَثِير مِنْ يَسْأَلُ، قَلِيل مِنْ يُعْطِي، يَبْدَؤُونَ أَهْوَاءَهُمْ قَبْلَ أَعْمَالِهِمْ " (14).

 

وَقَالَ الحَسَنُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "إِنَّ هَذَا القُرْآن قَدْ قَرَأَهُ عَبِيدٌ وَصِبْيَانٌ لَا عَلَمٌ لِهُمْ بِتَأْوِيلِهِ وَلَمْ يَأْتُوا الأَمَرَّ مِنْ قِبَلِ أَوَّلِهِ؛ قَالَ تَعَالَى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص : 29]، وَمَا تَدَبُرُ آيَاتِهِ إِلَّا اِتِّبَاعُهُ بِعِلْمِهِ .

أَمَّا وَاللهِ مَا هُوَ بِحِفْظِ حُرُوفِهِ وَإِضَاعَةِ حُدُودِهِ ، حَتَّى أَنَّ أَحَدَهُمْ لِيَقُولَ: وَاللهِ لَقَدْ قَرَأْتِ القُرْآنَ كُلَّهِ مَا أَسْقَطْتِ مِنْهُ حِرَفًا، وَقَدْ وَاللّةٌ أَسْقَطَهُ كُلُّهِ ، مَا رُئِيَ القُرْآنُ لَهُ فِي خُلُقٍ وَلَا عَمَلٌ... " (15).

 

وَقَالَ اِبْنُ الجوزي رَحِمَهُ الله تَعَالِيَ فِي ذِكْرِ تَلْبِيسِ إِبْلِيسٍ عَلَى القُرَّاءِ: "فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ أَحَدَهُمْ يَشْتَغِلُ بالقراآت الشَّاذَّةِ وَتَحْصِيلهَا فَيُفْنِي أَكْثَرَ عُمْرَهُ فِي جَمْعِهَا ، وَتَصْنِيفهَا والإقراء بِهَا وَيُشْغِلَهُ ذَلِكَ عَنْ مَعْرِفَةِ الفَرَائِضِ وَالوَاجِبَاتِ، فَرُبَّمَا رَأَيْت إِمَامَ مَسْجِدٍ يَتَصَدَّى للإقراء وَلَا يَعْرِفُ مَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ، وَرُبَّمَا حَمْلَةُ حُبِّ التصدر حَتَّى لَا يَرَى بِعَيْنِ الجَهْلِ عَلَى أَنَّ يَجْلِسُ بَيْنَ يَدَيْ العُلَماءِ وَيَأْخُذُ عَنْهِمْ العِلْمُ وَلَوْ تَفَكِّرُوا لَعَلِمُوا أَنَّ المُرَادُ حَفِظَ القُرْآن وَتَقْوِيمَ أَلْفَاظِهِ ثُمَّ فَهْمُهِ ثُمَّ العَمَل بِهِ ثُمَّ الإِقْبَال عَلَى مَا يُصْلِح النَّفْسَ وَيُطَهِّر أَخْلَاقَهَا ثُمَّ التشاغل بِأَلَمِهِمْ مِنْ عُلُومِ الشُّرُعِ، وَمِنْ الغَبْنِ الفَاحِش تَضْيِيعُ الزَّمَان فِيمَا غَيْرهِ الأَهَمُّ ...". (16)

 

فَلِيَكُن القُرْآنُ مُقَدَّمًا فِي حَيَاتِنَا؛ وَلِنَرْجِعْ فِي فَهِم مَعَانِيَهِ وَأَحْكَامِهِ لِفَهم سَلفِنَا الصَّالِح لِنُبْصَرْ - عَلَى هُدَاهِمْ - جَمِيع أَمَرنَا وَنُطَبِّق حُدُودَه وَحُرُوفَه لِيَعُودَ لِنَّا عِزَّنَا وسؤددنا.

 

اَللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْ أَهْلِ القُرْآنِ؛ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُكَ وَخَاصَّتُكَ، وَمِنْ مَفَاتِيحِ الخَيْرِ وَالعَطَاءِ..

اَللَّهُمَّ عَظِمَ حُبّ القُرْآنِ فِي قُلُوبِنَا ، وَقُلُوب أَبْنَائنَا، وَاِجْعَلْنَا مِمَّنْ تَعْلَمُ القُرْانَ وَعَلِّمْهُ وطَبْقَه وتَخَلقَ به..

اَللَّهُمَّ اِجْعَلْ القُرْآنَ العَظِيمَ رَبِيع قُلُوبِنَا، وَشِفَاءَ صُدُورنَا، وَاُرْزُقْنَا تِلَاوَتَهُ وَالعَمَلَ بِهِ عَلَى الوَجْهِ الَّذِي يُرْضِيكَ عَنَّا.

 

الهوامش :

(1)الشوكاني/ فتح القدير ، 1/104 .

(2) إبراهيم الدويش - أبناؤنا في حلقات القرآن – مجلة الدعوة - بعض المقتطفات والجمل والاستشهادات في المبحث بتصرف وإضافة .

(3)رواه ابن حبان في صحيحه (1/281-282 رقم81)، والبزار(7/220رقم2793) وحسنه.  

(4)مصنف عبد الرزاق 20368، عبد الله بن أحمد بن حنبل / السنة ص 135-136 .

(5) شعب الإيمان 2283 .

(6)ابن تيمية/ فضائل القرآن صـ 71 .

(7)تفسير الطبري 1/80 .

(8)القرطبي/ الجامع لأحكام القرآن، 1/40؛ وتهذيب سير أعلام النبلاء، 1/35، وابن سعد في الطبقات 4/121.

(9) الطرطوشي/ كتاب الحوادث والبدع ص 97 .

(10) القرطبي/ فضائل القرآن صـ 3 .

 (11)ابن عبد البر / جامع بيان العلم وفضله، (2/238).

(12) الشوكاني/ تفسيره جـ1 ص 14 - القواعد النورانية ص 292 .

 (13)الفصل، لابن حزم، (4/156).

(14) مالك في الموطأ 406 وشعب الإيمان 5000، الفريابي/ فضائل القرآن رقم 108، ابن الضريس/ الفضائل رقم 1و4 وفي إسناده ضعف.

(15) مصنف عبدالرزاق 5984، الفريابي/ فضائل القرآن رقم 177 ، وابن نصر / قيام الليل صـ 72 .

(16) تلبيس إبليس جـ1 صـ 138.

اقرأ المزيد

كلمة عن نشر البكائيات بسبب الإغلاق المؤقت للمطاف

فمع تداول صور المطاف وهو خال من الطائفين بسبب عمليات التعقيم والحفاظ على حياة الناس وصحتهم من انتشار وباء كورونا

همسة على أبواب رمضان

أيها الأخوة والأخوات في عالمنا الاسلامي وطننا الخليجي والعربي.

علماء حاربوا الإرهاب منذ زمن

إن الجهود التي قام بها علماء الإسلام ودعاة السنة لنصرة دين الله عزوجل كثيرة لا يكاد يحصيها بشر

ثورة الجرابيع.. مؤامرة التفكيك من الداخل!

لم تعد الحرب في الوقت الراهن حرب تقليدية واضحة المعالم والأدوات كما كانت من قبل

المسرحية السرورية والهجرة البريطانية

رأينا في الأيام الماضية مروقًا خراجيًّا لعماد المبيض ودعواه "كذبًا" وهو جالس على "كنبة" سعيد الغامدي في لندن أن الدولة السعودية

التعامل مع أهل الكتاب

الحمد لله الذي خلق الخلق أجمعين ورفع منهم من استقام على صراطه المستقيم، وأشهد أن لا إله إلا الله القوي المتين

تعليقات


آخر الأخبار