"قاضي زاده".. حركة سلفية إحيائية واجهت الصوفية في الدولة العثمانية (1)
المؤرخة – هيام عبده مزيد
كان الصوفية لكل طريقة من الطرق أتباع بأعداد ضخمة تتبع تعاليم شيخها وتتوجه بتوجهه، وكثيرًا ما امتزجت الحياة الدينية والاجتماعية للمجتمعات التي أدارتها الدولة العثمانية بعقائد صوفية تسربت إلى ممارسات عامَّةِ الناس كجزء من شعائر وطقوس الدين الأمر الذي شكل عاملًا من عدة عوامل أدت لظهور حركة سلفية إحيائية في التاريخ العثماني عُرفت باسم حركة قاضي زاده وأتباعه، وكان لها أثر واضح في محاربة المتصوفة وعقائدهم التي اعتبروها بدعًا دينيةً لا علاقة للشرع بها.
تأثرت حركة قاضي زاده وأتباعه بتعاليم عالِم دين عثماني كبير يُدعى "البرگوي" فعبر مؤلفاته نادى بوجوب محاربة البدع التي ليست من الدين في شيء، وضرورة التمسك بسنة النبي في جميع أمور الدين، مما يساهم في القضاء على البدع المنتشرة في الدولة العثمانية.
و"البرگوي" هو محمد بن پير علي البرگوي المعروف كذلك باسم "برگوي محمد أفندي"، عالم دين عثماني ولد منطقة "بالق اسِير" غربي شبه جزيرة الأناضول، وتلقى تعليمه بمدينة "برگي" وإليها يُنسب وفيها توفي.
ترك العشرات من المؤلفات في اللغة والعقيدة والفقه، والتفسير والحديث، ونستطيع أن نقول أن البرگوي مثَّل مدرسة دينية مختلفة عن المدرسة العثمانية، وكان الخط الرئيسي لفهم الدين عنده يمكن إيجازه في إزالة البدع التي ظهرت لأسباب متعددة بين المسلمين، والذي جعلته يتصدى لتنقية الدين منها؛ فقد كان يؤمن مثل شيخ الإسلام "ابن تيمية" بأن هذه البدع هبطت بقدر المسلمين وأبعدتهم عن الدين الحنيف، وأن الطرق الصوفية ذات الاتجاهات الهابطة كانت مصدرًا لظهور تلك البدع.
كما كان يتهم الدولة رسميًا بمسئوليتها في شيوع الطرق الصوفية؛ فقد ذهب ذات مرة إلى الوزير الأعظم رئيس الوزراء "صوقللو محمد پاشا" من أهم الشخصيات التي أدارت الدولة بعد وفاة سليمان القانوني، وطلب منه أن تتوقف الدولة عن دعم الطرق الصوفية التي تنشر البدع لأن هذا يهدد أمن المجتمع المسلم.
وقد سجل هذا العالم الكثير من المجادلات في موضوعات مختلفة أبرزها نقاشاته مع شيخ الإسلام والعالم الكبير أبي السعود أفندي آنذاك حول مشروعية وقف من أنواع الأوقاف ظهر في العهد العثماني عُرف باسم "وقف النقود".
اعتمد البرگوي على آراء شيخ الإسلام "ابن تيمية" في أعماله، كما اعتمد على أعمال وآراء "ابن القيم" مثل كتابه "إغاثة اللهفان" في مسألة زيارة القبور وبدعيتها واستحبابها وذلك ضمن رسائله التي جمعت تحت عنوان "رسائل البرگوي" محققة ومطبوعة وصدرت عن دار الكتب العلمية في 2011.
حركة "قاضي زاده" والبداية من إسطنبول
حركة "قاضي زاده" هي حركة إحيائية ظهرت على يد "قاضي زاده محمد أفندي" [1582-1635] في القرن السابع عشر، وتبعه مجموعة من المؤيدين من وعاظ المساجد، وكان الهدف منها محاربة البدع التي تم استحداثهافي الدين خاصةمن الصوفية مثل الحج إلى قبور الأولياء، ومحاربة انتشار شرب القهوة والدخان [وكانت أمورًا حديثة نسبيًا]، والرقص الصوفي، وحلقات الذكر، والغناء، والموسيقى، مع دعوة الناس للعودة إلى نقاء الدين مرة أخرى، كما جاء به النبي [عليه الصلاة والسلام].
ولد قاضي زاده ودرس في "بالق اسِير" على يد شيخ من أتباع "البرگوي"، ثم انتقل بعدها إلى إسطنبول وتابع دراسته في مدارسها وبعداستكمال تعليمه بدأ حياته كواعظ في مساجد إسطنبول ثم تحول إلى صوفي من أتباع الطريقة الخلوتية، وما لبث أن ترك التصوف وعاد مرة أخرى إلى للتدريس والوعظ.
اشتهر قاضي زاده بقدرته المميزة على الخطابة بجانب عمله كمدرس، فعُين في منصب خطيب الجمعة في "مسجد السلطان سليم الأول"، وهو من المساجد السلطانية ذات المقام الرفيع والوضع الاجتماعي المرتفع لمن يخطب فيه ثم عُين بعد ذلك في عدد من المساجد السلطانية الهامة مثل "جامع السلطان بايزيد الثاني، "جامع السُليمانية"، و"آيا صوفيا"؛ فاستطاع جذب أعداد كبيرة من الواعظين لمنهجه بالإضافة إلى عامة الشعب.
استطاعت شبكة وعاظ الحركة بصفتهم وعاظًا في جوامع سلطانية كبيرة الوصول إلى عدد كبير من الناس عبر خطب الجمعة أو عبر النقاشات العامة التي كانت تتم بداخل الجوامع، داعين الناس إلى ضرورة تطبيق مبدأ "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" لمحاربة البدع.
واجه قاضي زاده وتياره الصوفية واعتبروهم خصومهم خاصة "الخلوتية" منهم فتحدثوا في خطبهم عن عقائدهم البدعية، ودعوا أتباعهم لمواجهتهم، وظهرت نقاشات ومناظرات بين الطرفين سواء كانت بكتابة الرسائل والكتب الدينية أو بالتهديد المباشر من قاضي زاده لهم بالعقاب إن لم يتوقفوا عن ممارسة شعائر الرقص، والذكر، والغناء بداخل المساجد.
الوصول إلى القصر السلطاني
ظهر التيار بشكل واضح في عهد السلطان "مراد الرابع" حكم من [1623 حتى 1640]، واستطاع قاضي زاده بقوة أتباعه وانتشارهم الوصول إلى السلطان والتأثير فيه لإكساب دعوته قوة سياسية يستطيع من خلالها نشر آرائه الدينية في المجتمع فبالإضافة إلى دعوته عبرسنوات إلى إغلاق تكايا الصوفية، فقد دعا السلطان مراد نفسه إلى إغلاق المقاهي والخمارات بالإضافة إلى حظر الدخان والرشوة وغيرها.
وبناء عليه أمرالسلطان بإغلاق المقاهي والخمارات وتدمير بعضها كما تم حظر شرب الخمر والدخان مع تنفيذ عقوبة "الإعدام" ضد كل من يخالف الأوامر، وقد أعدم بالفعل مئات الأشخاص الذين خالفوا الأمر منهم مثلا 15 أو 20 شخصًا عسكريًا في الجيش قبض عليهم يدخنون أثناء حملة السلطان على مدينة "بغداد" لاستعادتها من الصفويين، الواقعة التي سجلها العالم الكبير "كاتب چلبي" في كتابه "ميزان الحق في اختيار الأحق".
وعلى الرغم من قسوة العقوبة بحق كل من يُقبض عليه وهو يدخن، بالإضافة إلى صرامة الحظر، فإن ذلك يدل على قوة تأثيرية كبيرة لآراء قاضي زاده، جعلت السلطان يقبل باقتراحاته وينفذها على الرغم من أن السلطان مراد استجاب لقاضي زاده بإغلاق الخمارات إلا أنه لم يعترض على تكايا الطرق الصوفية؛ بل عين شيخًا يدعى زكريا زاده يحيى أفندي كشيخ للإسلام، والمعروف بتأييده للتصوف والصوفية.
كما لم يعترض على الممارسات الصوفية التي يعترض عليها قاضي زاده، فعمل على كسب دعم التيارين للحصول على التأييدالسياسي لهمامما يعددليلًاقوياآخر على الحساب الذي كان يحسبه السلطان لتيار قاضي زاده وأتباعه
وفي عام 1635 توفى قاضي زاده، ففقدت الحركة الشخصية القائدة والكاريزمية والمؤسس والمعلم فخفت نجمها لمدة زادت عن عقد إلى أن ظهر شخص آخر مثل القائد الجديد للحركة، وهو "اُستُواني محمد أفندي" [ت 1661] الواعظ الدمشقي مولدًا ودرسًا.
وبسبب براعة خطابته وتمكنه من التدريس عُين كرئيس للحركة خلفًا لقاضي زاده، استطاعت الحركة بقيادة اُستُواني تجديد نفسها لمحاربة الصوفية والبدع، وطلبوا من الدولة الدعم السياسي لاجتثاث البدع من جذورها، وقد نجحوا هذه المرة أكثر من المرة الماضية في كسب السلطة السياسية إلى صفهم، فضموا رجالًا من سلطة القصر لحماية الحركة، وقاموا بتحريض أتباعهم ضد الصوفية وكل من يزور تكاياهم، وتهديد كل من يمارس البدع ويرفض الرجوع إلى الإسلام الصحيح.
اقرأ المزيد
كان للمرأة نصيب كبير في دعوة الإمام المجدد محمد بن عبدالوهاب، فكان لبناته وأحفاده دور في نشر العلم بين النساء في الدرعية وخارجها
سلطنا الضوء في وقت سابق على فصول مخفية في تاريخ الدولة العثمانية التي أصابها الضعف بسبب التصوف والبدعة
"لم يقاس أهل مصر شدة مثل هذه، ولم يقع لأهلها شدة أعظم من هذه الشدة قط"؛ هكذا وصف المؤرخ المصري محمد ابن إياس في كتابه "بدائع الزهور في وقائع
فجر المؤرخ الكويتي، الدكتور سلطان الأصقه، مفاجآت مدوية حول شخصيات تاريخية يحاول الإعلام التركي تصديرها والترويج لها خلال المرحلة الحالية
بمجرد استقرار المسلمين بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة، وقيام المجتمع الإسلامي الجديد، اتجه نشاط المسلمون نحو توطيد مكانة هذه الدولة