فيروس كورونا وترتيب القيم.. اهتراء المنظومة الغربية وقوة القيم الإسلامية


الباحث الشرعي - عبدالله بن محمد الشبانات

 

لا شك أن الأحداث الجسام على وجه الأرض، وتفاعل التكوين البشري معها يكشف عن الترتيب الحقيقي للقِيم أمام أعينهم فيلغي قِيمًا ويُرَتّب أُخرى، لكنهم بعد فترة من الزمن يعودون إلى ما نُهُوا عنه وإلى ترتيبهم الشخصي للقيم حسب نظرتهم الآنية القاصرة وحسب ما طرأ عليهم من أفكار سواء كانت أفكارًا قديمة أو جديدة أو مُجَددة.

 

والبشر في عمومهم أي المجتمعات لهم تشابه كبير في القيم، ولكن الاختلاف يكون في ترتيبها من حيث الأولوية وهذا راجع إلى مدى فهمهم لها.

 

ومن جراء هذا الترتيب يكون أثر القيمة من عدمه على المجتمع، فتتعملق قِيَمٌ ما كان يجب أن تتعملق بهذا الحجم، وتُقَزّمُ قيم ما كان يجب أن تُقزّم، وتَبْطُلُ قيم لأنها لا تعمل إلا إذا صارت في موقعها الحقيقي وهذا الأمر لا ينطبق في الغالب إلا على قيمة واحدة وهي قيمة التوحيد الخالص لله الذي ما أن تتغير مكانته من حيث أنه القيمة الأولى إلا ويبطل أثره الحقيقي لتحل محله قيم تُضاده، وتقوم بدع مكانه كأنها في الظاهر قيمة دينية، وما هي إلا وهم وبدعة منكرة ودينٌ باطل.

 

وفي أزمة وباء كورونا اتضحت لنا بجلاء خصوصًا في العالم الغربي مدى ضياع القيم لديهم وترتيبها، مما يدل على أنهم مجتمعات متخلفة بربرية، فبعد اجتاحت الفلسفة الفردية أوروبا بشكل واضح في أوائل القرن السابع عشر وما بعده ترتبت عندهم القيم بناء على المادية، وكان ذلك بسبب اختلال القيم لديهم قبل ذلك، وهو التحريف الذي وقع في دينهم، فصارت عندهم قابلية لإعادة ترتيب القيم فكان المذهب الفردي المادي هو المرتب للقيم لأن الدين لم يعد عندهم فاعلاً ومُرتِب للقيم بسبب تحريفه ودخولهم في الشرك، (وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ)، والكهنوتية الدينية وقبلها الرهبانية المبتدَعة (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ).

 

فحلت المادية بعد ذلك محل الدين، وصارت هي من يرتب القيم فجعلت النفعية المادية من أهم القيم وأولها فتعملقت عندهم النفعية المادية، وكان لها أثر في دعم الصناعة التي تدر عليهم نفعًا عظيمًا، ولو كان على حساب غيرها، فدعموا جميع الروافد التي تغذي الصناعة وتحميها فدعموا البحث العلمي والجيوش لحماية التجارة والكشوف الجغرافية والبحث عن موارد طبيعية لدعم الصناعة، فبنوا مجتمعاتهم وأسرهم على هذا الترتيب الذي جعل النفعية المادية هي القيمة الأولى.

 

وفي عصرنا وعند تعرضهم لهذا الوباء المُسمى بكورونا الذي لا بد فيه من التباعد الاجتماعي مما تسبب في تعطيل الحركة والإنتاج لفترة من الزمن، وذلك حتى تقف العدوى رفضوا هذا الإجراء الصحي واستمروا في عدم التباعد الاجتماعي لأنه يتعارض ويؤثر في قيمتهم العليا وهي النفعية المحققة للربح المادي؛ فكثر المتساقطون بسبب هذا المرض وانهارت واختلت كثير من منظوماتهم خصوصًا الصحية وغيرها.

 

إذًا فالانهيار الذي أصاب المنظومة الصحية في الغرب كان أولا بسبب اختلال ترتيب القيم عندهم، فلما خالف ترتيب القيم عندهم الفطرة والدين الصحيح اختلت عندهم المنظومة الصحية ثم المنظومة الأمنية ثم الغذائية؛ لذلك هم يعيشون الآن وضعًا كارثيًا بسبب اختلال ترتيب القيم عندهم.

 

لقد كشف فيروس كورونا بشكل عملي الخلل في منظومة الغرب القِيَمِيّة وترتيبهم للقيم، فاعتماد النفعية في المقام الأول وعدم اعتمادهم على حفظ الضرورة كما في الدين الإسلامي سبب هذا الانهيار وهذه الفوضى؛فالضروريات الخمس أساس وقيم عليا في نظام الدولة المسلمة وليست النفعية الاقتصادية كما في الرأسمالية أو الشيوعية مع مراعاة أن الشيوعية تختلف عن الرأسمالية في كيفية التوزيع فقط؛ ولكنها مثل الرأسمالية في اعتماد النفعية قيمة عليا فوق أي قيمة وليس قيمة الفرد أو المجتمع.

 

لقد اكتشف الفرد الغربي أنه مجرد رقم في منظومة من الضلال تراكمت عبر السنين وأنه مجرد سلعة لها قيمة محددة وربما تكون هذه القيمة أقل من التكلفة الحالية فيشطب مثله مثل أي رقم أمام رقم أكبر منه، وهذا الأمر يذكرنا بسوق النخاسة لبيع الرقيق.

 

فإذا رجعنا إلى زمن النخاسة، فإنك عندما تدخل السوق، فلن تشتري عجوزًا ولا شيخًا هرمًا؛ بل ستشتري من ينفعك نفعًا ماديًا كخادم يقوم بشأنك أو جارية تشبع غريزتك أو عبدًا تتخذه جنديًا فيما بعد، إذًا لن تجد الرجل الهرم في السوق أو المرأة العجوز؛ فهو رقم لا قيمة له وهذا ما حدث في العالم الغربي ويحدث الآن في أزمة كورونا، فلقد اكتشفت الشعوب الأوروبية والغربية عمومًا أنهم إنما كانوا في سوق نخاسة رأسمالي عبيدًا وأرقاء للأحزاب والكتل الحاكمة أو بعبارة أوضح وأصرح أنهم عبيد وأرقاء لمن يتحكم في الكتل والأحزاب من الكتل الاقتصادية والمالية.

 

لقد نسي الغرب أنّ لأفراده حاجات وقيم أُخرى بحكم الفطرة غير القيمة النفعية المادية التي تربى عليها، ولتوضيح ذلك فإن لمثل هذه الجوائح تأثيرًا على المستوى الفردي من حيث ترتيب القيم، فمن كانت قيمته هي قيمة مجتمعه تناغم وتوافق مع مجتمعه ومن كانت قيمته خلاف ذلك صار نشازًا و انفرد وخالف وفي بلاد الغرب اكتشف الفرد أنّ له قيم غير النفعية كان قد نسيها أو أُنسيها فلما انهارت عنده القيمة العليا التي تربى عليها وهي الفردية النفعية اتضحت له قيم أخرى أساسية وأُخرى ثانوية.

 

فالقيم الثانوية تكون حسب حاجاته وللجوائح تأثير عليها أيضًا من حيث إعادة الترتيب، فإما أن يكون محتاج لها فيتمسك بها وإما أنه يكتشف زيفها فينبذها ولو فترة الجائحة، ولكن القيم في الأزمات والجوائح العامة تتوحد بين كثير من أفراد المجتمع في قيمة عليا لتصبح قيمة مجتمعية فردية في آن واحد، أي أن المجتمع ينظر لها من زاوية المصلحة العامة والفرد ينظر لها من زاوية مصلحته مع اختلاف زوايا النظرة إلّا أنها تتوافق هنا.

 

إذًا فالمشي بخطوة واحدة بين أفراد المجتمع على أساس القيمة الأُولى وما بعدها من قيم مهمة وداعمة للقيمة العليا الرئيسية يضمن للمجتمع التماسك إلى حد كبير وعدم دخول أي فكر منحل أو مختلف إليه ومن هذه النقطة نكتشف مدى الضرر الذي تسببه النظرة الليبرالية أو القاعدة الإخوانية سمها ما شئت، وهي: "نعمل فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه".

 

فقد تسبب اعتماد هذه المقولة في إخلال ترتيب القيم الكبرى داخل المجتمع، ومن ثم السماح للأفكار بدخول المجتمع باسم التعددية والحرية فاختلت قِيَمُهُ ولم يعد على قيمة واحدة، بل عدة قيم متضاربة بسب التعددية، وهنا موضع التخلف والتراجع الحضاري الحقيقي؛ فالغرب اعتمد قيمة عليا متغيرة بسبب اضطرابها  فهي لا تصلح أن تكون قيمة عليا وهي قيمة النفعية، فهي في الأصل قيمة تابعة وليست رائدة حتى؛ بل هي قيمة خادمة تابعة لقيم أعلى.

 

إن المذهب الفردي الليبرالي وخصوصًا بوجهه الديمقراطي وأدواته النفعية اشتراكية كانت أو رأسمالية هي السبب الرئيسي في الإخلال بقيم المجتمعات البشرية وترتيبها.

 

إن القيمة الوحيدة التي تخرج عن تحكم وسيطرة الأحداث الكونية وجميع الجوائح ولا يمكن أن تُكسر أو تنكسر أبدًا هي القيمة المرتبطة بشيئ فوق التأثر، ألا وهي قيمة توحيد الله؛ فشرف الشيئ وقوته بشرف متعلقه، فهذه القيمة متعلقة بالله فمتى كانت هذه القيمة هي الرائدة، فإن المجتمع لن يفشل أبدًا وكل حضارة أو مجتمع يعتمد قيمة عليا غير توحيد الله واتباع الوحي سوف يفشل في مرحلة ما أو في أزمة ما، أما من اعتمد التوحيد واتباع الوحي قيمة عليا؛ فإنه لن يفشل أبدًا والدليل أن المسلمين في أمرهم انشئوا حضارة ناجحة وبعد دخول البدع عليهم وابتعادهم عن التوحيد شيئًا فشيئًا نزل مستواهم الحضاري ومستوى نجاحهم وفي آخر الزمان تكون لهم العزة والسؤدد على يد عيسى عليه السلام، فيكونون حضارة لا تقهر أبدًا ويضرب الإسلام بجرآنه الأرض، وهذه الحضارة لا تنهار؛ بل تغادر الأرض عزيزة وذلك بمغادرة أهلها الدنيا وهم في أوج عزهم لأنهم اعتمدوا التوحيد قيمة عليا.

 

فيبعث الله ريحًا فتقبض أرواحهم كما ورد في صحيح مسلم، ولكن قبل ذلك الزمان وفي أيامنا هذه وما قبلها نجد أنّ أهل البدع يؤثرون في مدى فاعلية هذه القيمة بتحريفها بإدخال البدع عليها، لذلك يكون الصراع هنا بين القيم الأصيلة والقيم الدخيلة فبقدر قوة توحيد المجتمع واتباعه للسنة تكون قوته وثباته أمام الجوائح والمدلهمات.

 

وقد ضربت السعودية أروع مثال في هذا المجال فباعتمادها قيم الدين الصحيح وتفعيلها أكثر في هذه الجائحة المسماة بجائحة كورونا ثبتت السعودية ونجحت حضاريا فلله الحمد والمنة ولله الحمد والمنة أيضًا أن شرفنا بالعيش في هذه الدولة المُوَحِدَة راعية الدين الصحيح، قال تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ).

 

لقد تعرت الدول الغربية وفشلت حضاريًا في مواجهة كورونا مما يدل على وجود تخلف حضاري لديها ليس كامنًا، ولكنه كان مغطى بالدعاية الكاذبة للغرب وقد ظهر في هذه الأزمة التي ضربت القيمة العليا لديهم وهي المادية النفعية في مفصل وهكذا فإن كل مجتمع يعتمد قيمة عليا غير القيمة الحقيقة التي ارتضاه الله لنا سوف يأتي يوم وتنهار حضارته ومجتمعه وينهار هو أيضًا أمام اختبار لنقطة ضعف في قيمة مجتمعه العليا.

 

إذًا القيمة الوحيدة التي لا نقطة ضعف فيها هي توحيد الله قال تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ)، ويقول المولى عز وجل: (أم يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ۖ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ ۚ وَكَفَىٰ بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا).

 

فسمى اعتماد التوحيد واتباع الوحي دينًا وقيمة عليا (ملكًا عظيمًا) فبه تكون السيادة الحقيقية التي لا تقهر وليست السيادة البائدة التي إن وقفت أمام جائحة ما، لم تقف أمام التي بعدها وهذه سنة الله في خلقه ا.هـ

اقرأ المزيد

شاهد.. الدكتور "الحدادي" يرصد خطورة العلمانية على الإسلام والمسلمين وسبل الوقاية

رصد الشيخ الدكتور علي بن يحيى الحدادي، مخاطر العلمانية على الإسلام والمسلمين، مستعرضًا أهم السبل التي يمكن اتخاذها لمواجهتها ومنع انتشارها

الدكتور "الهاجري": الدستور السعودي قائم على الكتاب والسنة.. ويكشف حقيقة "العلمانية"

أكد الشيخ الدكتور راشد بن رمزان الهاجري، أن نظام المملكة العربية السعودية قائم على كتاب الله جل وعلا وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم

السنة والأمن الفكري.. صحيحُ البخاريِّ أنموذجًا

فإنَّهُ لَا يخفَى علَى كلِّ مُسلمٍ ومسلمةٍ مكانةَ السنَّةِ النبويةِ وحجّيتَهَا وشرفَهَا، فإنَّ شرفَهَا منْ شرفِ صاحبِهَا -صلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليْهِ-، ومَنْ تأمَّلَ طريقةَ القرآنِ

الجِلد الجديد.. الإخوانيون الجدد

الحمدلله.. الأصل في الحركات الباطنية أنّها كالحيّة تغير جلدها حسب الظروف المحيطة بها وإن تغيرت وتباينت عن قريناتها وشقيقتها اللاتي هنّ من نفس جنسها

بيان حكم الخلافة العامة

فإن بعض الجهلة ردّا على الإخوان المسلمين قد ينكر مشروعية الخلافة العامة، وهذا من مقابلة البدعة بالبدعة، والخطأ بالخطأ

العنصر النشط.. دراسة مختصرة في السلوك البدعي

نجد لكل دعوة منحرفة على وجه الأرض عناصر وعوامل نشطة متغيرة تؤثر على سير هذه الدعوة أو تلك وتحرف وتُحرّف مقصدها وعنوانها الكبير والذي في الغالب يكون ظاهره الحق.

تعليقات


آخر الأخبار