ماهيّة الانحلال وحقيقته


بقلم - عبدالله محمدالشبانات

 

الحمدلله..

 

تمر المجتمعات بظواهر سُنَنْيّة لا مناص عنها إذا تهيّأ لها الجوّ المناسب للظهور ومنها ظاهرة الانحلال وهي في حقيقتها ونتيجتها  الانحلال عن الثقافة الأصيلة.

 

 فالانحلال ظاهرة اجتماعية تنتاب المجتمعات في فترة الانقلابات الاجتماعية أو التغير الاجتماعي والانقلاب أو التغيّر هو تحوّل اجتماعي في بعض القيم العليا أو كلها ينعكس على السلوك الجمعي؛ ولكن ليس كل انقلاب اجتماعي يكون معه انحلال أو دعوة اليه لكن الانحلال لا يظهر إلا في فترة الانقلابات الاجتماعية إذا توفر في هذا الانقلاب ما يدعو لظهور الانحلال.

 

والانحلال لا يكون على حقيقته إلا بالإخلال بالوظائف الاجتماعية لصالح الثقافة الدخيلة سواء كانت وظائف فطرية كون الشخص رجل أو امرأة  أو وظائف أساسية كون الشخص زوجة أو زوج أو وظائف ثقافية كعالم الدين أو الأديب أو وظائف حاجية كالمهن المختلفة من طب وزراعة فإن أي مكون اجتماعي صغر أم كبر، زوجةً كانت أم صاحب مهنة أو إعلامي أو عالم دين أو أديب.. إلخ، يخرج عن وظيفته المطابقة لطبيعته الاجتماعية ومؤهله فإنه يصير وبالا على باقي المكونات الأخرى  ومن ثم المجتمع قاطبة وهنا الثغرة التي يدخل منها أعداء ثقافة المجتمع ومن هذا الإخلال الوظيفي يكون الإخلال بالقيم ثم الإخلال بالاصطفاف الاجتماعي.

 

وغالبًا ما يبدأ ظهور الانحلال على مستوى عموم المجتمع أي على المستوى العامّ في الشكل الظاهري  كالملابس وطريقة الكلام وطريقة الأكل؛ هذا في الظاهر ثم تتعمق لتصل إلى البواطن أي لب الثقافة وإلى الفكر وطريقة التفكير إما اقتناعًا أو ليبرر المنحل ما هو عليه ظاهريًا ثم يتبع ذلك -بعد أن ينضج الانحلال ويتحول إلى قيم مزاحمة للقيم الأصيلة- إلى التغيير في الوضع السياسي ويستغل هذه الظاهرة في جميع مراحلها أي ظاهرة النزوع إلى الانحلال الجمعي أصحاب الفكر المنحرف الدخيل أو الكيان الموازي في أحد صوره؛ فيقومون بإثارة هذه النزعة المجتمعية بدعم هذه الظواهر الانحلالية وتبريرها وتقديم الأفكار لها ودعمها إعلاميّاً ليصلوا بذلك إلى تغيير أصول الثقافة.

 

إذاً لا يقتصر الانحلال الاجتماعي على الانحلال الخلقي فقط أي المحرمات المشتهرة فقط؛ بل الانحلال في حقيقته وشمول النظرة إليه هو الانحلال عن الوضع السائد في المجتمع المخالف لثقافتها وعلى رأس الثقافة عندنا في مجتمعنا هو الدين ومن بعده مباشرة الموروث الاجتماعي المتعلق بالعادات الأصيلة التي هي في غالبها نتاج قرون طويلة من تفاعل الدين والأخلاق والظروف الملازمة للبيئة أو السائدة؛ لذلك نجد أنّ الإسلام نهى عن لبس ثوب الشهرة وهو من المحرمات لأنّه يكسر هذا السمت السائد ويخترق بعد ذلك السُمك الاجتماعي ليصل إلى النواة الثقافية.

 

إنّ حصر الانحلال في الانحلال الأخلاقي وتفسيره بأنه ممارسة المنكرات المشتهرة فقط كشرب الخمر مثلا يعتبر نظرًا قاصرًا لأنّه يعمي العيون عن استفحال الأنواع أو الانماط الأُخرى للانحلال والتي تنخر في ماهيّة باقي الوظائف والمكونات الاجتماعية وعندها يحدث ما يسمى بانهيار القيم والثقافة المجتمعية التي قام عليها المجتمع وقامت عليه دولته.

 

فكثير من المصلحين في الغالب يقصرون الانحلال في الأخلاق فقط ويفسرونه بأمور المحرمات المشتهرة فقط لوضوحها ولا ينتبهوا إلى الانحلال الاجتماعي بكليته الذي يشمل المحرمات الواضحة والمحرمات غير الواضحة، ويشمل كذلك مخالفة الموروث الذي يعكس جذور الثقافة أمّا الموروث المؤقت الذي يعكس وجود الحاجة المادية له أو بعض الظروف الاجتماعيه المتحولة من جيل إلى جيل فتركه لا يعدّ من الانحلال؛ بل هو تطور وهذه النقطة هي التي انحرف فيها كثير من الناس وخلطوا بين الموروث الأصيل والموروث المؤقت وجعلوها كلها في خانة الموروث المؤقت بل جعلوا القيم العليا أو مصادرها من ضمن الموروث المؤقت بسبب فقدهم للمعيار القائم على القيم العليا في مجتمعهم، وهذا الفعل عمّق وجود الفراغ الفكري عندهم فاضطروا معه اضطرارًا عقليًا إلى استيراد نماذج من هنا وهناك؛ غربية كانت أو شرقية وهؤلاء في الغالب مع انتمائهم لتيّار دخيل فإنّ عندهم الاستعداد للانخراط في أي منظمة تدعم فكرهم المنحل الداعي إلى الانحلال الاجتماعي وهذا ماحدث لكثير من الحزبيين من الليبراليين والإخوانيين وغيرهم من الانخراط في منظمات حقوقية أو سياسية تدعو إلى دعم الانحلال بكل أنماطه.

 

فمثال هذا تجد البعض ينكر على على الرجل لباسه إذا أظهر شيئ من العورة غير المغلّظة كالفخذ ولكن إذا لبس لباس شهرة وكان ساترًا لعورته فإنه لا ينكر عليه فحصر الانحلال في هذه النقطة وهي ظهور الفخذ من عدمه.. إنّ المحافظة على السائد المجتمعي خصوصًا في اللباس له مكانة وعناية في الشريعة الإسلامية.

 

بل إنّ المحافظة عليه تتعدى أكثر من ذلك فنحن نعرف أنّ هناك خلاف قوي في كشف وجه المرأة بدون زينة فتأتي دعوى كشف الوجه بحجة الخلاف وما يتبعها من التمادي إلى إظهار الزينة والتبرج وهذا الخلاف في أساسه أمر  حقيقي كما سبق ذكره؛ فكيف تعاملت الشريعة مع المجتمعات التي اعتمدت تغطية الوجه وصار سلوكًا اجتماعيًا مع كونه في المقام الأوّل سلوكا تعبديّا -وهي الحالة الأحسن لثبات الأمر- لقد عالجت الشريعة هذا الوضع  بعدة أمور أوضحها وأهمها أنّ حُكم الحاكم يرفع الخلاف وهذا فيه دلالة على أنّ قرارات ولي الأمر وأحكامه يجب أن تكون في سياق ثقافة المجتمع ومراعية للسائد العام.

 

ومن أمثلة الانحلال في مجتمعنا أيضًا بمعناه الشامل، دعوى حصر الزيّ الحجازي في العمامة الهندية أو التترية فقط لا غير فترسيخ هذا يعتبر انحلال إجتماعي تكمن صورته في ربط هوية الحجاز بثقافة أخرى خارج المجتمع العام ليس تمهيدا للارتباط بتلك الدول بل للانفصال الاجتماعي عن مجتمعنا السعودي أوّلا وذلك تمهيدًا للانفصال السياسي بعد ذلك وهذا له أبعاده في دعوى تدويل الحرمين مع أنّ التركيبة السكانية الغالبة في الحجاز خصوصًا في مكة والمدينة ليست العِمامة الهندية من زيّهم البتّه.

 

إن مدى قوة النجاح في مكافحة الانحلال في المجتمع تعتمد بعد توفيق الله على مدى وضوح وشمولية رؤية المصلحين وأهل النصح وأصحاب القرار لظاهرة الانحلال في المجتمع ومدى عمقها وتعمّقها  ولتَسْهُل محاربة الانحلال بكل أنماطه على المستوى الديني التوعوي للمجتمع وذلك عن طريق الإعلام وعلى المستوى التربوي التعليمي وعلى المستوى الأمني بتجريم أنواع الانحلال التي هي في الظاهر وللوهلة الأولى لا حرمة فيها فضلا عن المحرمة أصلاً فضلاً عن المشتهر حرمتها بين الناس.

 

إنّ أهمّ خطوتين علميتين في مكافحة الانحلال هو تفعيل القيمة العليا في الضمير الجمعي والثاني التفريق بين الموروث الأصيل والموروث المؤقت الذي يعكس الحاجة لا الأصل؛ ومثال الموروث المؤقت إقامة الزواج في وقت العصر أو الظهيرة فقد كان هذا تقليدًا قديمًا لكنه لا يصلح اليوم لأنّ أكثر الناس في وقت العصر في فترة راحة بعد العمل (الدوام) في وقتنا المعاصر فانتقل الاحتفال بالزواج  إلى ما بعد صلاة العشاء.

 

نخلص مما سبق إلى أنّ الانحلال له مفهوم يشمل ويتعدى المحرمات المشتهرة وأنّ حقيقته تكمن في الإخلال بوظائف عناصر المجتمع إمّا بجعلها تتعدى على وظائف أخرى أو تهمل وظائفها هي كالاخلال بوظيفة المرأة في المجتمع  دفعها لتستلم وظائف الرجال، وكذلك الإخلال بوظائف المصلحين وذلك بدفعهم إلى أن تتعدى وظيفتهم إلى الإفتيات على ولي الأمر وإيهام المصلح أنّه يمارس وظيفته الحقيقة وكذلك تعدي الأديب مثلا على وظيفة أهل العلم الشرعي واعتراضه على فتاوهيم بجهل وتحكيم الذوق والهوى.

 

ولقد عالجت الشريعة الانحلال بعدة طرق إجرائية منها النهي عن أن يتدخل الإنسان فيما لا يعنيه وربط ذلك بحسن الإسلام قال: صلى عليه وسلم (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) وحذّر كذلك صلى الله عليه وسلم من الرويبضة وبين أنّه الرجل التافه يتكلم في أمر العامة فهذا الرجل عندما وضع نفسه في غير وظيفتها الحقيقية صار تافهًا وهذا ما نعانيه اليوم من المتعالمين أصحاب الثقافة الدخيلة وهذا الأمر من أهم أسباب الإخلال الوظيفي الذي يسبب الإنحلال.. فكل إنحلال يكون سببه الإخلال.

اقرأ المزيد

كلمة عن نشر البكائيات بسبب الإغلاق المؤقت للمطاف

فمع تداول صور المطاف وهو خال من الطائفين بسبب عمليات التعقيم والحفاظ على حياة الناس وصحتهم من انتشار وباء كورونا

احذر هذا المنزلق

قال الله تعالى : {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ

"إرهاب الأحباب".. نشأت في تركيا وترعرعت بالهند ومولتها بريطانيا

تبذل وزارة الشؤون الإسلامية والدعوة في المملكة العربية السعودية بقيادة معالي الوزير الشيخ الدكتور عبداللطيف آل الشيخ، جهودًا كبيرة لنشر العقيدة الصحيحة والمنهج السلفي الأصيل

خاطرة.. حينما تتحول المحن إلى منح

رسالة ود ومحبة وإخاء لمن يستشعر هذه الأيام بشيئ من الملل ويشعر بالضيق من الجلوس في منزله بسبب فيروس "كورونا" .

المملكة العربية السعودية.. عَمِيْلَةٌ لمن؟

بكل صراحة... أنا رجل كثير الشك، دائم التفكير، شديد الفضول، مستمر التحليل والتركيب والربط والمقارنة

الأبعاد الفكرية للحركة المثلية ومستقبل المجتمعات

قبل أن نتعرف على الأبعاد الفكرية لهذه الحركة التي تنشط مؤخرًا بشكل ملفت عالميًا على جميع الأصعدة سياسيًا وإعلاميًا وسينمائيًا

تعليقات


آخر الأخبار