المعنى المُجَرّد وأثره في هدم الدين والثقافة


إعداد –  عبدالله بن محمد الشبانات

 

(المعنى المُجَرّد وأثره في هدم الدين والثقافة كقولنا الحرية أو الإقصائية أو المساواة…الخ)

 

عندما أخذت النخبة من أصحاب المذهب الفردي الباطني في غزو ثقافات العالم بدأوا بالثقافة الأوروبية ورأوا أن اعتماد المعاني المجرّدة في تشكيل فكرها وطرحها الثقافي الجديد يفتح أمامهم الطريق إلى داخل العمق الثقافي الأوروبي لتغيير جذوره الثقافية والفكرية وقد نجحوا في ذلك، فطرحوا اتجاههم الفردي بصورة جديدة، وذلك على شكل عدة مذاهب فكرية متضادة لتخلق بما سُمّيَ فيما بعد بالحركة الفكرية في العصور ما بعد الوسطى، تمهيدًا لإثبات المذهب الفردي فقط فظهرت فلسفة هيجل ونيتشيه كتضاد فكري مدفوع ومسموح له من طبقات النخبة بطريقة أو بأخرى.

 

ولكن كان القاسم المشترك الكبير لهذه الاتجاهات الفكرية المحدثة المتعددة المتضادة هو إعتمادها للمعاني المجردة في التعبير عن نفسها ثقافيًا وفلسفيًا وإبطال أي مصدر آخر للعلم والثقافة أو تهميشه على الأقل وعلى رأسها الدين والتاريخ والقواعد العقلية المُحَدَدَةِ المنطلقة من الدين والتاريخ و الثقافة الأصيلة.

 

وذلك سعيا من النخبة لتذويب الهوية الأوروبية الأصلية ومن بعدها تذويب هويّات الشعوب الأخرى ولتكون أوروبا هي الملاذ والمُصنِّع الفكري لمن أراد أن يشذ عن هويته إلاّ أن تكون هويته باطنية فردية مثلهم وقد نجحوا في ذلك نجاحا ملحوظا.

 

والجأت هذه الحالة من إعتماد المعاني المجردة في الطرح الثقافي -كثيراً ممن ينتمون الى ثقافات أصيلة محددة المعالم و المعاني وإن كانت ضالة وعلى رأسهم رجال الدين النصراني- إلى استخدام المعاني المجردة وذلك لكي يكون لهم طرح مقبول بين الناس فقامت كثير من المذاهب النصرانية وقساوستها بتبني المعاني المجردة في تعبيراتهم وأقوالهم ومؤلفاتهم فخلطوا ثقافتهم القديمة والتي كانت محددة المعالم وراسخة نسبيا أمام المذهب الفردي الليبرالي على ضلالها بثقافة متميعة غير واضحة المعالم فظهر منهم من يدعوا إلى أمور تناقض أصول الدين النصراني واليهودي تمشّيا مع المذهب الفردي إلى أن وصل بهم الأمر مؤخرا إلى افتتاح كنيسة للملحدين!!؟؟

 

فذاب دينهم وتاريخهم وهويتهم في هذا الإتجاه الفردي الخبيث الذي يجعل الفرد الذكر هو مدار الكون وكانت البوابة للوصول إلى هذه الحالة هي اعتماد المعاني المجردة في طرحهم الديني.

 

بل لقد اخترق أصحاب المذهب الفردي  المذاهب الشيوعية ودمروها فكريا مع أنّهم هم من دفع بعجلة الجدل والثقافة إلى أن ظهر الفكر الشيوعي البشع ليكرّهوا البشرية بالقيادة الجمعية وبلزوم المجتمع والإرتباط به سواء على مستوى الأسرة أو على مستوى الدولة (الوطن) ثم أبادوها بنفس الطريقة التي أبادوا فيها الثقافة النصرانية القديمة وكان من أهم أسلحتهم استخدام المعاني المجرّدة.. فالدين السماوي والمجتمع هما ألدّ أعداء المذهب الفردي الباطني الليبرالي.

 

ونفس الصورة التي حدثت في أوروبا نقلت إلى عالمنا الإسلامي فقد انتقل إلينا نحن المسلمين هذا الأمر بشكل صريح بعد غزو نابليون فانفتق السّد الذي كان بيننا وبينهم وبدأ عهد التحوّل الثقافي بنفس الخطوات الأوروبية وبعدة أسلحة وكان من أهمها ونبراسها ومادتها إستخدام المعاني المجرّدة في الطرح والسبب في ذلك كله أن إستخدام المعاني المجردة يجعل للمراوغ الذي لا يملك رؤية واضحة وحقيقة لمنهجه مجالاً للتفلت وعدم الإنضباط والإختباء لأنّه ضعيف لايملك الجذر والأساس وفي نفس الوقت يستطيع التسلل إلى العمق الثقافي في حال قُبِل منه استخدام المعاني المجرّدة في طرحه ليستغلّ العمق الثقافي بعد تغييره لصالحه أي لصالح الفردية.

 

ومع أنّ مبدأ إستخدام المعاني المجردة كان عند الصوفية ولكنه كان منحصر عند نخبهم و في مجال العقيدة والتربية السلوكية فقط واستخدام الصوفية للمعاني المجردة هو من اهم اسباب التقارب بينهم وبين الثقافة الغربية بل المؤتمرات الفكرية في أوروبا وابنتها أمريكا يشيدون بالصوفية وينعتونها بالإسلام المعتدل وقد حذت الحركة الإخوانية حذوهم لعدة أسباب منها أنّ هذا المذهب يُناسب رؤيتهم بالإضافة إلى أنّه يجعل لهم مكانة عند الغرب.

 

وهذا يعد من أنواع تدخل الغرب في تشكيل ثقافة إسلامية تناسبهم فقد أُستخدمت المعاني المجرّدة من الغرب و من أبناء المسلمين  في تشكيل ثقافة إسلامية جديدة تأخذ هذه الطريقة العائمة وتعتمدها عند تبيين ماهيّة الإسلام ليتماشى مع المذهب الفردي فعند النظر مثلاً في بعض المصطلحات الثقافية المجردة كدعوى الإنفتاح ودعوى الإقصائة والمساواة وغيرها كثير كالحرية ومدى شرعيتها وحد رفضها وحد قبولها فإنها لاتحمل في حد ذاتها أي مبدأ محدد المعالم.

 

فمصطلح الإقصائية مثلا من المعاني المجردة التي لا يصلح أن تستخدم ثقافيّا عند العقلاء وذوي الهويّة الواضحة بدون ضابط يضبط معناها المجرّد المطلق فمثلا لا يُقبل الإقصاء على إطلاقه ولا يرفض الإقصاء على إطلاقه فأنا إذا أقصيت ما يضرني وقرّبت ما ينفعني بناءً على القيمة العليا لدي وانطلاقا من ثقافتي التي شكلها ديني في المقام الأوّل فهذا هو التفكير البشري الفطري فلا يعدني إقصائي هنا إلا ذوي المذاهب الإنسانية الباطنية الفردية لانهم لايملكون أي جذر حقيقي ثقافي  يتكئون عليه فهم عائمون أو بعبارة أوضح أنّ جذرهم الثقافي لا يقف أمام الثقافات الأخرى خصوصا المرتبطة بالوحي أو حتى المرتبطة بالمجتمع.

 

وهنا أمر يجدر التوقف عنده وهو أنّ استخدام المعاني المجرّدة صار يشكل مأوى  للمنحرفين ثقافيا والذين لا يستطعون إظهار كامل صورتهم الثقافية ومرتكزاتها سواء الدينية أو المذهبيه الإنسانية فيختبؤون خلفها ويحاربون غيرهم بإسمها وهم أول من يخالفها فعقلا لا يمكن للمعاني المجردة المحتاجة لضابط أن تستخدم مُجرّدَةً لانها بهذه الصورة تحمل ضدها معها وضدها لم يخرج إلّا عند غياب ضابطها.

 

فالحب معنى مجرد محتاج إلى ضابط اذا استخدم بدونه انتقل ولو إلى حب الشر للناس أي كره الخير لهم و كذلك الحرية معنى مُجرّد محتاج إلى ضابط  ثقافي إذا استخدم بدونه إنتقل إلى حرية السعي في التضييق من حرية الطرف الآخر أيّا كان بل يصل حتى الى إدعاء الحرية في استعباد الناس ولو بوجه الليبرالية الاقتصادي وهي الرأسمالية.

 

فاستخدام المعاني المجردة في التعبير عن الثقافة ذات الأساس الواضح يُحوّلها من حالة الوضوح إلى حالة الغموض والضعف والميوعة، و هذا واضح في الأطوار التي مرّت بها الثقافة الأوروبية فعندما أراد المذهب الفردي بثوبه الجديد أن يغزو أوروبا ستخدم المعاني اُلمجرّدة في التعبير عن نفسه وعن غيره وأرغم الثقافة الأوروبية القديمة على أن تتحول إلى استخدام المعاني المجرّدة في ثقافتها فانهدم السّد الذي بين المذهب الفردي وبين الثقافة الأوروبية الأصيلة فذابت الهوية الأوروبية.

 

إنّ التعامل بالمعاني المجردة ثقافيا و تربويا ينشئ جيلاً عائما لا هدف له إلّا تحقيق شهواته بأي وسيلة كانت وهنا سؤال لماذا سيتجه هذا الجيل إلى تحقيق شهواته باي وسيلة! فالجواب، لأنّه فقد هويته الثقافية و أساسها كالدين والتاريخ أو على الأقل ضعفت إلى حد كبير فلم تعد له قيمة إلّا لشهوته لأنّها الموجود الوحيد الواضح لديه الذي يحمل معاني محددة لا مجردة وإن كانت معاني حيوانية فهي حاجة غريزية بيولوجية كالأكل والشرب والجنس فصار في اهتماماته كالحيوان كما هو حال كثير من الغرب بل أكثرهم.

 

وتتكرر نفس الصورة التي حدثت في أوروبا عندنا نحن المسلمين فنجد أنّ إعتماد المعاني المجردة في الطرح الثقافي الجأ كثيرًا ممن يرفعون شعار الثقافة الإسلامية وأبتعدوا عن طريق السلف إلى استخدام هذه المعاني الُمجرّدة لكي يكون لهم طرح مقبول بين الناس كالمنتمين إلى الحركات السياسية الحزبية كالإخوانيين أو ممن تفرّعوا عنهم ممن سَمّوا أنفسهم بالليبروإسلاميين أو التنويريين فراموا الجمع بين الضب والنون أي الجمع بين متناقضات فخسروا هويتهم الأصيلة ولم يستطيعوا حمل إسلامهم والتعبير عنه كما هو بهذه المعاني الُمجرّدة وذلك لأنّ المعنى المنضبط يُعبّر عن المبدأ المنضبط أما المعنى المجرد المنفلت فيُعبّر عن الفكر الُمجرّد الخِواء الُمنفلت فأهل العقل لا يُورِدون ممرض على مُصِحّ قال صلى الله عليه وسلم (ولا يورد ممرض على مُصِحّ).

 

ومن طوام استخدام المعاني المجُرّدة هو ضياع المعاني الأصيلة والتخلي عنها ليحل محلها المعاني المناسبة للخِواء والخلط والإنفلات فخرج من الحزبيين الإخوانيين خصوصا في السعودية من يُلمّع العلمانية فيُسمّيها العلمانية اُلمسالمة والناعمة …الخ مادام أنّ حزبه وجماعته قد اعتمدها بل إنّ بعض الإخوانيين اعتمد العلمانية الإسلامية !؟ كما فعل النصارى من الجمع بين المتناقضات بإقامة كنيسة للملحدين!؟ وبما أنّ العلمانية لازالت مرفوضة في السعودية والعالم الإسلامي عامّة فتجده يستخدم المعاني المجرّدة لتمريرها داخل عمقنا الثقافي لتستقر فيه بل يصل الأمر إلى تحريف مصادر الثقافة كالدين والتاريخ وغيره لكي يقبلها الوسط النخبوي والفكري والمثقف أوّلا وتجد أنّه عند حوارك معه عن هذا الطرح الجديد العائم بهذه المعاني الُمجرّدة لكي تحدد وتضبط معناها يفرّ منك ويراوغ .

 

فقوله علمانية (مسالمة) مسالمة لمن! وكيف! وناعمة في ماذا! ونعومتها متجهة للإسلام أم لكل الأديان أم ماذا !فعندما تطرح مثل هذه الأسئلة المُحدِدَة لماهيّة المصطلح أو المعنى  الُمجرّد لاتجد عنده جواب إلّا الإتهام لك بانك (مُنغلق) فيرجع إلى استخدام معنى مُجرّد آخر وهو الإنغلاق، وهكذا هو يعيش في دوامة و يريد أن يعيشها كل أحد معه.

 

ومن الملاحظ وبقوة أنّ استخدام المعاني الُمجرّدة من القواسم الأساسية المشتركة بين جميع التيارات الفكرية في عالمنا الإسلامي كالاخوانيين والليبراليين وذلك لكي يدخلوا إلى قعر المجتمع ثقافيا ليغيروه عن ثقافته الأصيلة إلى ثقافة عائمة ليسهل توجيهها نحو مصالحهم الحِزبية والتيارية لأنّ صاحب الثقافة الأصيلة والجذور المحددة المعروفة لايمكن أن يكونوا في مصلحتهم وهواهم دائما بسبب المُحدِدَات الموجودة عنده بغض النظر عن صوابها من خطئها فعند إلغائها باعتماد المعاني المجرّدة يكون من السهل توجيهه.

 

لقد انخدع في طرحه الثقافي كل من تبنّى المعاني الُمجرّدة  سواء ظنّ أنّها حق أو ظن أنها ستخدم مذهبه وتيّاره من أصحاب الفكر الليبرالي أو الفكر الإخواني أو الفكر الصوفي الجديد فكلهم يخدمون المذهب الباطني الفردي علموا أو لم يعلموا قصدوا أو لم يقصدوا.

 

والحل الوحيد هو قطع استخدام المعاني المجردة في التعبير عن عقيدتنا وديننا وثقافتنا وفي تربية أبنائنا وفي حوارنا مع المذاهب والأديان الأُخرى فلو نظرت في قوله تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ ۚ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)، فإنك لا تجد أيّ معنى مُجرّد استخدم بل استخدمت معاني مقصودة محددة تفسر عقيدتنا وديننا وعند قوله (فإن تولوا) أي لم يقبلوا بهذا فاخبروهم ان يشهدوا بأنّكم على دين الإسلام وهنا حص على التمسّك بالدين والهويّة وهذا عكس ما يدعوا إليه الطرح الثقافي والفكري على أساس من المعاني المُجرّدة.

 

واعلم أنّه عند استخدامك للمعاني المقصودة المحددة ورفضك استخدام المعاني المجُرّدة العائمة فستوصم بالإنغلاق لأنّك أغلقت أمامه الطريق لإختراق عمقك الثقافي وتحررت من التبعيّة له ودفعت بعجلة تنميتك بنفسك فبنيت أُمّة مستقلة لها تأثيرها الإيجابي على البشريّة ولها طريقتها النابعة من هويتها في التأثر بالأُمم الأُخرى والأخذ منها.

 

وأخيرًا.. أُشبّه استخدام المعاني المجرّدة في الطرح الثقافي والفكري بالفيروس الذي لايمكن أن يعيش لوحده بل يسري داخل الجسم الصحيح حتى يستقرّ في قلب خلية مِن الخلايا فيحوّلها إلى مصنع لأشباهه من الفيروسات فيبدأ الجسم بالاعتلال ويأخذ يُحارب نفسه بنفسه ولاحول ولا قوة إلّا بالله.

 

والله أعلم وأحكم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

اقرأ المزيد

كلمة عن نشر البكائيات بسبب الإغلاق المؤقت للمطاف

فمع تداول صور المطاف وهو خال من الطائفين بسبب عمليات التعقيم والحفاظ على حياة الناس وصحتهم من انتشار وباء كورونا

احذر هذا المنزلق

قال الله تعالى : {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ

الاعتصام بالله وبذل الأسباب.. أسس شرعية وأصول مرعية لمواجهة "كورونا"

يتردَّد كثيرًا في مجالس النّاس هذه الأيام حديثٌ عن مرض يتخوَّفون منه ويخشون من انتشاره والإصابة به ، بين حديث رجلٍ مُتَنَدِّرٍ مازح، أو رجلٍ مبيِّنٍ ناصح،

المسرحية السرورية والهجرة البريطانية

رأينا في الأيام الماضية مروقًا خراجيًّا لعماد المبيض ودعواه "كذبًا" وهو جالس على "كنبة" سعيد الغامدي في لندن أن الدولة السعودية

خاطرة.. حينما تتحول المحن إلى منح

رسالة ود ومحبة وإخاء لمن يستشعر هذه الأيام بشيئ من الملل ويشعر بالضيق من الجلوس في منزله بسبب فيروس "كورونا" .

الإجراءات السعودية الاحترازية.. وقائية حكيمة واستباقية مسددة

فإن صدور القرارات المتتالية والإجراءات الاحترازية التي اتخذتها المملكة العربية السعودية في تصدي مرض كورونا

تعليقات


آخر الأخبار