مَرْةً أُخرَى.. ارْحَمُوا السَّلَفيَّة


بقلم – الدكتور بدر بن علي العتيبي

 

الحمدُ لله ربِّ العَالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على النَّبيِّ الأمَينِ، وعَلى آلهِ وصحْبِه أجمعينَ.

أمَّا بَعدُ:

فَيا رَبَّ جِبرِيلَ ومِيكائِيلَ وإِسرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمواتِ والأرضِ، عَالمَ الغَيبِ والشهادَةِ، أَنتَ تَحكم بَينَ عِبَادِكَ فيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفون، اهدني لِما اختُلِفَ فيه من الحقِّ بِإِذنِكَ، إِنَّكَ تَهدي مَن تَشاءُ إلى صِراطٍ مُستَقيمٍ، فبالله استعنَّا ﴿وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ﴾ [الأعراف: 89].

 

ثم سَبَق وإنْ تكلَّمتُ في مَقالٍ نَشرتُه بالحَرْفِ والصَّوتِ فيهِ نَصَائحَ مهمَّة لإخْواني أهْل السُنَّة «السَّلفيينَ» بعنوان: «ارْحَـمُـوا السَّـلَـفِـيـَّة» وَمَا ذَاك إلَّا مُساهمة في رَأبِ الصَّدْعِ، ومعالجةِ الخَلَل، وجمعِ الكَلمة، ونبذِ الفُرقةِ، بين طُلَّابِ العلمِ السَّلفيينَ، وقَد ساهمَ مَنْ ساهمَ من أهلِ العلمِ والفضلِ في ذلكَ -منْ قبلُ ومن بعدُ- بما هو أنفعُ وأكثرُ فائدةً في عددٍ من الرسائل النافعة؛ كالمشايخ الفضلاء والعلماء الأجلاء: عبدِالمحسن العبَّاد وصالحِ السُّحيمي وعبدِالله العبيلان في آخرين، فجزاهمُ الله عن السُنَّة وأهلها خير الجزاء، ولكنّ المؤسِفَ أنَّ مِن بينَنَا من لا يزالُ في عمَهِ الجهالة، وأسبابِ الضَّلالةِ، وصِرَاع التَّحزُبَاتِ، ومَعاركَ التَّزْكيات، وحروبِ التَّصْنيف، والحكمِ بالتَّطفيف! بما لا يَرضاه عَاقلٌ، ولا يَقبلُه عالمٌ، حتَّى صَارت السَّلَفية محلَّ شماتةٍ تحتَ نظرِ خُصومها، وكلَّما دَخَل جيلٌ مِنَ الرِّجالِ والنِّسَاء: ركِبَ مَعهم الصَّعْبَ والذَّلول! في مَدْحِ هَذا، وقدْحِ ذَاك مِن أقرَبِ النَّاسِ إليهم لا منْ أهلِ البِدَعِ ممَّن يعادي السنة ويُعَادِيهم! ولا زالَت رَحِمَ الجَهالَة والانتصارِ للنَّفْسِ والهَوى تُنْتج المزيدَ مِن التصنِيفَات والأسْماء الَّتي يُعلَّق عليها الولاءُ والبراءُ، والحبُّ والبغضُ، والهجرُ والصِّلَةُ، ممَّا يزيدُ أهلَ السُنَّة فُرقةً وشتاتاً.

 

الله أكبر! إنَّها واللهِ السَّنَن، فَعادوا بهِم إلى الجَاهلِية الأولى! يَحسَبُهم النَّاظرُ جميعاً وقُلُوبهم شَتَّى! فَصَاروا كـ: ﴿الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ [الروم:31-32].

 

يا معاشرَ السلفيين؛ أبهذا أُمرتم؟ أمْ هَذا الَّذي تعلَّمتم في كُتْب الاعْتِقادِ الَّتي تتَّفقون جميعاً –الهاجر والمهجور!- عَلى قِراءتِها وإقرائِها بين العَالمين بأنّ: «أهلَ السُنَّةِ هم أهلُ الجَماعةِ والائتلافِ، وأهلُ البِدعةِ: هُم أهلُ الفُرقَةِ والاخْتِلافِ».

 

أليسَ فِيكم رَجلٌ رشيد؟ أو صَاحبُ قَولٍ سَدِيد؟ فيجْمع الصُّفوفَ، ويؤلِّف بين القُلوبِ، ويُؤدِّب المُماحِل، ويُعلّم الجَاهل.

 

أما قَرأتم قول الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ [الأنعام:159] وقوله: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ﴾ الآية [آل عمران: 103]  وقوله تعالى : ﴿وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [آل عمران:105] نسأل الله السلامة والعافية، وقال تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [الأنعام:153]، وقوله تعالى : ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشـْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ﴾ الآية [الشورى:13]  وقوله عزّ وجلّ فيمن ذمّ من المخالفين: ﴿فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ [المؤمنون:53].

 

أما سمعتم قول النبي:  إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسَّسَوا، ولا تجسَّسَوا، ولا تنافسُوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا كما أمركم، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى هاهنا، التقوى هاهنا، التقوى هاهنا - ويشير إلى صدره - بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وعرضه، وماله. إن الله لا ينظر إلى أجسادكم، ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» متفق عليه.

 

هذا واللهِ داءُ الأُممِ الَّذي دَبّ إليكم كما قال النبيr: «دبَّ إليكم داء الأممِ قبلكم: الحسد والبغضاء، وهي الحالقة أما إني لا أقول: تحلِقُ الشعر، ولكن تحلِق الدين، والذي نفسي بيده، لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنون حتى تحابوا، ألا أدلكم على ما تتحابون به؟ افشوا السلام بينكم» أخرجه الترمذي، وفي حديث أبي الدرداءt: قال: قال رسول الله r: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام، والصلاة، والصدقة؟ قالوا: بلى، قال: صلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة» رواه أبو داود وغيره.

 

يا معاشر السلفين؛ أقولها:

مــــرةً أخــــرى ..... ارحـمــوا الســلـفـيـة

 

ارحموا السَّلَفِية مِن هذِه النِّزاعاتِ والخِلافاتِ الهَابطة! الَّتي يَخجلُ العاقلُ مِن ذِكْرها، ويَستَحي النَّزيهُ مِن النَّظرِ فِيها، فمَا رأيتُ راياتِ النِّزاعِ قَامت عَلى فَريضة، ولا افْتَرقَت الصُّفوفُ عَلى أمرٍ عَقَديٍّ، وإنَّما عَلى القِيلِ والقَال! وفُلان وعَلَّان! وَمن زَكّى هَذا؟ وَمَن مَدَح ذاك؟ أمورٌ –وايمُ الله- لا يَتكلم بها إلا سُخَفاء العقولِ.

 

جَعلْتم الرِّجال: مَدْحاً وقَدْحَاً، وحُباً وكُرهاً، وصِلَةً وهَجْراً مِن أصولِ الإسْلامِ، وقَواعدِ الملة! وما هي عندَ أهلِ العِلمِ إلَّا مِن «قرائنِ» الحُكمِ وليست منَ «البيِّنَاتِ» ولِذلك قليلٌ ما يُذكر الرِّجالُ في كتبِ اعتقادِ أهلِ السُنَّة إلَّا مَن عُرف بالإمامةِ في الحقِّ أو الباطلِ محبةً وبُغضاً للامتحانِ في الدِّين، وإلا فَعَامة كُتب أصولِ اعتقادِ أهلِ السُنَّة والجَماعة لم يُذكرَ أفرادُ الرِّجالِ ضِمْن أصولِ الاعتقادِ الَّتي يُضللُ ويُهجرُ من خَالفها، كأصولِ السُنَّة للإمام أحمدَ وابن المَدِينيِّ والثوريِّ وآخرين، فَكيفَ يُجعل «عامةُ» النَّاسِ -مَهما كانَت مَقالاتُهم وانتماءاتُهم وأخطاؤهم- من مواطنِ المِحْنَةِ والافْتراقِ! كـ: «هَاني بِريك وأضْرَابه!» حَتَّى صارَ حُبُّه وبغضُهُ، أو الكلامُ فيهِ أو السُّكوتُ عنه! أصْلاً مِن أصولِ اعْتِقادِ أهلِ السُنَّةِ عِندَكم! وَما هُو إلَّا رَجلٌ مِنْ عَامَّةِ المُسلمينَ؛ إنْ أصَاب فَلنفسِه، وإنْ أخْطأ فعَليها، وَمن أثْنَى عليه –في حالِ خَطئهِ- يُناصَح بِرفقٍ ويُبيّن لَه، ومَن ذَمّه –في حَالِ إصابتِه- يُناصَح بِرفقٍ ويُبيّن لَه، لا أنْ تَفترقَ جموعُ أهلِ السُنَّة السَّلفيين تحتَ أقْدام أقوامٍ هُم من عَامةِ النَّاسِ وليسوا مِن أئمتِهم، وتُخلقُ في الوجودِ طَائفةٌ لا أصل لوجودِها وتُسمّى: «الصَّعافقة!» كسابقاتِها الَّتي ذكرتُ في مقالي السَّابق! فيطير بِها السُّفهاءُ والحَمقى، ويصنِّفون أهلَ السُنَّة تحتَ ظِلالها، ويختفرون الذِّمَم، وينتهكونَ الأعْراض، ويُمزِّقون الصُّفوفَ، ويَتدابرون ويَتهاجرونَ بأمثالِ هذه الأسماءِ الجَاهِلِّيةِ.

 

ومما يُحزن القلب، ويُكدِّرُ الخاطرَ: أنْ شَرَر هذِه الفِتنة أشْعَل النِّزاعات والفُرْقةَ في بُلدان عِدَّة هِي بحَاجَةٍ ماسَّةٍ إلى بيانِ التَّوحيدِ والسُنَّةِ، وَنَشْرِ العِلْم والفَضيلة، فتَدابر فِيها السَّلفيونَ واشْتغَلوا بأنْفُسهم، وعَطَّلوا الدَّعوةَ إلى التَّوحيدِ والسُنَّة، وتَرَكوا تَعليمَ النَّاسِ الخيرَ، وتناولَ كُلُّ واحدٍ من إخواننا عَصَا الجَهالة، وَسْوطَ النَّذالةِ! وأخذَ يُشهّرُ بأخيهِ السَّلفي، بالتَّحذيرِ والنَّكيرِ والفُجْرِ في الخُصومةِ، كما يحصلُ في الجزائرِ والسُّودانِ! حتَّى فَرحَ بذلك الصُّوفيةُ والجهميِّةُ وغيرُهم منْ أهلِ الضَّلال!


بل حتَّى في بِلادنا –حَفِظها الله ووقَاهَا- معَ مَا الناسُ فيهِ من حَاجةٍ ماسّةٍ إلى نشرِ العِلم، وحِرَاسةِ الفَضِيلةِ، وتَعليمِ الخيرِ، وصَدّ عُدوانِ الزنَادقةِ وتشكيكاتِهم في ثوابتِ الملَّة؛ نجدُ الكثيرَ مِن الشَّبابِ السَّلفي في صِرَاعهم يَعْمهون! و«يُغرِّدونَ خارجَ السِّـرْبِ!!» بِما يظنونَ أنَّهم فيهِ يُحسنونَ صُنْعَا، وإنَّا للهِ وإنَّا إليهِ راجعونَ.

 

يا مشايخَ السلفيينَ ... يا طلابَ العِلمِ ... اتَّقوا الله في دينِ الله، وفي أنفسِكُم، وفي شبابِ المسلمين.

 

أنتم والله تِرسانةُ الأمةِ، وحماةُ الشَّريعةِ، وحَملةُ الآثارِ، فمَا النَّاس مِن حوْلِكم إلَّا:

[1] خُرافيٌّ غُذِّي بالدَّجَلِ والكَذِب.

[2] وحِزبيٌّ مصروفٌ عن العلم.

[3] وصاحبُ هوى لا يَعرف منَ العِلم إلا ما يُوافقُ هَواه.

[4] وعَاميٌّ على دينِ من ناداه!

 

وأنتم أكثرُ من يَعتني بكتبِ السُنَّة، ويُعظِّم الآثار، ويهتمُ بالتَّوحيدِ، ويجلّ العُلماء، وينافحُ عن الشَّريعةِ، فما استبانَ للناسِ ضَلالُ الإخوانِ المسلمينَ إلَّا ببيَانِكُم، ولا كُشفت زَندقةُ الليبراليينَ إلا بِأصُولِكم، ولا عُرفت قَبائحُ الخوارجِ الموارقِ إلا بِحُجَجِكم، فمَا بالُكم اليومَ شُغِلْتم بأنْفُسِكم؟

 

اتَّقوا اللهَ في دينِ الله تعالى الَّذي تَخلّف الكثيرُ عن مَناصَرتِه، حتى صَارَ البعضُ لا تَتَحرَّك كَلماتُه، ولا تَظهر مَقالاتُه، ولا تُدوَّر تغريداتُه: إلَّا عندما يُنال من شيخِه ومعظّمِه، وأمَّا عندما يُشكَّك في ثوابتِ الأمة، وقواعدِ الشَّريعةِ، وأئمةِ السُنَّة: فَلا تُحسُّ مِنهم مِنْ أحَدٍ ولا تَسْمَعُ لهمْ رِكْزَا!

 

دينُكم ... دينُكم يَا معاشرَ السَّلفيين، إنْ لم تكونُوا عَامودَ عَرْشِه وأسَّه فمن يَكون؟ تَنفونَ عنه انْتِحالَ المبطلينَ وتَأويلَ الجَاهِلينَ وتحريفَ الغَالِينَ.

 

فرَحم اللهُ عَبداً بدأ بالسَّلامِ، وبَادَل أخَاه بالاحترام، واعْتذرَ مِن خطئِه، وتراجعَ عَن زلَّتِه، ولم يتولّ كبرَه، وعَرف قَدْرَ الكَبير، وألانَ الجنابَ للصَّغيرِ، وأشْفَقَ عَلى الجَاهِل.

 

وقَبْل طَيّ سجِّل المقالَ؛ اختمُ بأربعِ هَمَساتٍ مِن قَلْبي لمن نَظَر:

أولها: لنَا في السَّالفين الأولينَ من السَّلَف الصَّالحِ قُدوة وأُسوة، وبِهداهُم نَقْتدي، فَمَع مَا تَعْلَمونَ مِن قِيامِ الأئمةِ بنُصْـرةِ السُنَّةِ، وحمايةِ الشَّريعةِ، والردِّ عَلى المخالفينَ، إلَّا أنَّهم دَخلوا في الإسلام كافَّة! وخَدموهُ مِن كلِّ جَانِب، ولم يكونُوا كبعضِ السَّلفييِّن الَّذين حينما نُتابع مُشاركاتِهم، وكتاباتِهم، وتَغريداتِهم! إلَّا وهي تَدورُ في «رحى التحزب والتعصب» و«حربِ هذا وتزكية ذاك»، فَهبْ أنَّنا خلَّينا بينَ ذاك الجاهل ووجهته الَّتي تولَّاها، فَما بِهِ يترك بَقيةَ دينهِ مِن العِلم والتَّعليمِ والدَّعوةِ والعِبادةِ والعَمَلِ؟ فَهذا الإمامُ أحمدُ بن حنبل رحمه الله تعالى؛ مع صلابتِه في السُنَّة، ووقوفِه ضدَّ الكُفْرِ والزَنْدقةِ، وردودِه على أهلِ البدعِ، إلَّا أنَّه نَشر السُنَّة في كلِّ بَابٍ، وخَدم الدِّينَ مِن كلِّ جَانِب، فَصنّف في الزُّهدِ والأشْربةِ وأحْكَامِ النِّساءِ بل حتَّى في تَرْجيلِ الشَّعْر! وجَلس لإملاءِ الحَديثِ، وتعليمِ النَّاسِ الخَير، فهذِه السَّلفيةُ الحقَّة.


وهذا شيخُ الإسْلام ابن تيميةَ رحمه الله تعالى، الَّذي مَا مِن صاحبِ بدعةٍ وضَلالةٍ إلَّا وفي كَبِده مِنْه سَهمٌ من سِهامِ التّوحيدِ والسُنَّة، ومَع ذلكَ جَلس لتعليمِ النَّاس الخيرِ، ونَـشَر السُنَّة، وصَنّف في كافَّةِ أبوابِ الدِّين، في العقائدِ والأحكامِ والمعاملاتِ والزهدِ والرِّقاقِ والأدبِ والسِّياسةِ وغيرِ ذلك، ولم يَكن جَانبٌ مِن الدِّين مَانعاً لَه عَن جَانب، فكذلكَ ينبغي أنْ يكونَ طالبُ العِلمِ السَّلفي، يخدمُ الإسْلامَ والسُنَّة في كلّ جَانبٍ بِقدْرِ ما يَستطيع، ولا يُشغله بابٌ عن بابٍ وهُو قادرٌ على العَطَاء في الجميع.

 

الثانية: لطالباتِ العِلم السَّلفيات: سَبق وأنْ كتبتُ لهنّ وَصيةً تحتَ عنوان: «طُوبى للغريبات  .. ماذا نريد من طالبة العلم السلفية؟» وَلا زلْتُ أُكرِّر الرَّجاءَ والطَّلبَ عَلى مُراجعةِ المقالِ المذكورِ، فَقد أحْزنَ القَلْبَ: ما يحصُل مِن صِراعاتٍ وخلافاتٍ وفُرقةٍ وتدابرٍ بين طالباتِ العِلمِ السَّلفيات، وهنَّ واللهِ عَلى أصولِ اعْتِقادِ أهلِ السُنَّةِ والجَماعةِ في الإيمانِ والقَدرِ والصَّحابةِ والصِّفاتِ والوَعْدِ والوَعيدِ وكافَّة أصولِ اعتقادِ أهلِ السُنَّة، وما بينهنَّ إلا «عُبيِّة الجَاهليةِ» و«الجَهَالاتِ الحِزْبيِّة!» والزَّمانُ اليومَ إليهن أحوج مَا يكونُ من ذِي قَبْل، واتِّفَاقهُن أنفعُ للإسْلامِ والمُسلماتِ مِن ذِي قبل، فليتقينَ اللهَ تعالى، ورحِم الله من بَدأت بالسَّلام، وتجاوزت عَن الزَّلِل، وغَضَّت الطَّرْفَ عَن التقصيرِ، وتَعاونت عَلى البرِّ والتَّقوى، وخِدْمةِ الإسلام والسُنَّة والفضَيلة.

 

والثالثة: أن النَّافثين في عُقَدِ المحبةِ، المفسدين بين الأحبّة، السَّاعين في الفُرقة بينَ المُسلمينَ، لم يَسْلم مِنهم العَصرُ النَّبويُّ، فكيفَ ببقيِّة النَّاس من بعدِهم، ومن نَظر وتَأمل يجدُ أنَّ كثيراً مِن النِّزاعاتِ يدخلُ في عِراكها كَثيرٌ مِن الحَاقِدين الحَاسِدِين الَّذين يُحبِّون أنْ تَشيع الفُرقةُ بينَ السَّلفيين، ويَسْعونَ بالنَّميمةِ بينَ أهلِ العِلم وطُلَّابِه، فكونُوا منهم عَلى حَذرٍ وتقية، ولينظر أحدُكُم مَن يُخالل، وَقَد قَال تَعالى: ﴿لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ﴾ (النور: 12) فقدَّموا الظنَّ الحَسَن، وتبيَّنوا كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ [الحجرات: 6]، وقابلوا الخطأ بالعفو كما قال تعالى: ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [النور: 22]  وقال تعالى: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [آل عمران: 133، 134]، ثم إذا حَكمتُم فاتَّقوا اللهَ واحْكُموا بالعَدْل، والحذَارِ الحَذارِ من الظُّلمِ.

 

والرّابعة: إلى المتابِعِ بحزنٍ لما يقع بين إخوانِه السَّلفيينَ، فَلا تَحْزَنْ، ولا يَضيقُ صدرُكَ ممَّا يفعْلونَ! فَلن تَخْرِقَ الأرْضَ ولَن تبلغَ الجِبَال طوْلا، فَهذَا ممَّا قَضاه اللهُ تعَالى قدَراً وكَوناً، حيثُ جَعَل البأس بين أهلِ الحقِّ شَديدٌ، وحَقَّاً هوَ شَديدُ، ولئن ضَاقَ صَدرُكَ بكلامٍ يُصارَع بالكلامِ، فتَذكَّر أنَّه قد مضـى أقوامٌ تصارعوا بالسُّيوفِ! وهُم أصحابُ محمَّدٍr، خيرةُ البَـشَرِ بَعد الأنْبِياء، ولو كُنَّا بينَهم لرُبَّما مَا استَطعنَا أنَّ نكفّ هَذا عَنْ ذَاك، وَمَع ذَلِك نَترضَّى عنِ الجميعِ، ونستغفرُ للَّجميعِ، ونَنَشر مَحَاسِنِهم، ونَكفَّ عَنْ نَشْرِ مَا يقدحُ فيهِم، وكَذلك مَا يَحصل بينَ إخْوانِنَا اليومَ، واللهِ لا يَفرحُ بِه إلا مَريضُ قلبٍ، ولا يَشمُتُ بهِم إلَّا جَاهلٌ، وَلكن اسْألَوا اللهِ لهمُ الهدايةَ، وأكثروا لهم الدَّعاءَ، وابْذُلُوا لهمُ النَّصحَ، وأصْلِحُوا بينَ أخَويكُم، فإنْ بَغت إحْدَاهما عَلى الأُخْرى فبَالِغُوا في نُصْحِهَا بالتَّدَرجِ إلى الزَّجْرِ حتَّى تَفيئ إلى أمر الله.

 

اللهمَّ ألفْ بينَ قلوبِ إخْوانِنا، ورُدَّهم إليكَ رَدّاً جَميلاً، وأصْلِحْ فيما بينَهُم، واجْعَلْهُم مِن أنْصارِ دينِك، وحُمَاةِ شَريعتِكِ، وصَلّى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والسلام ورحمة الله وبركاته على من نظر وقرأ.

 

اقرأ المزيد

عنصرية أم تمييز؟!

العنصرية داء خبيث عانت منه الكثير من المجتمعات ففتك ببعضها و أدخل بعضها في دوامات من الصراع والنزاعات، والعنصرية أمر بغيض أساسه الكبر والتعالي والنظر

"إرهاب الأحباب".. نشأت في تركيا وترعرعت بالهند ومولتها بريطانيا

تبذل وزارة الشؤون الإسلامية والدعوة في المملكة العربية السعودية بقيادة معالي الوزير الشيخ الدكتور عبداللطيف آل الشيخ، جهودًا كبيرة لنشر العقيدة الصحيحة والمنهج السلفي الأصيل

الإجراءات السعودية الاحترازية.. وقائية حكيمة واستباقية مسددة

فإن صدور القرارات المتتالية والإجراءات الاحترازية التي اتخذتها المملكة العربية السعودية في تصدي مرض كورونا

ثورة الجرابيع.. مؤامرة التفكيك من الداخل!

لم تعد الحرب في الوقت الراهن حرب تقليدية واضحة المعالم والأدوات كما كانت من قبل

الاعتصام بالله وبذل الأسباب.. أسس شرعية وأصول مرعية لمواجهة "كورونا"

يتردَّد كثيرًا في مجالس النّاس هذه الأيام حديثٌ عن مرض يتخوَّفون منه ويخشون من انتشاره والإصابة به ، بين حديث رجلٍ مُتَنَدِّرٍ مازح، أو رجلٍ مبيِّنٍ ناصح،

ملحد يقود قطيعًا !

الباشا الثوري محمد علي مفجر ثورة التصحيح وحامل هم الغلابة على عاتقه، الذي لا يؤمن بوجود إله لهذا الكون أصلا

تعليقات


آخر الأخبار