"القصة كاملة".. السلطان عبد الحميد الثاني وشيوخ الصوفية (1)
بقلم – المؤرخة هيام عبده مزيد
مرت الدولة العثمانية منذ نشأتها سنة (699هـ - 1299م)، بعدة أطوار متعاقبة بين قوة وضعف وتوسع وانحصار، إلا أن الانحدار والضعف الذي عرفته تلك الدولة قد استمر لفترة طويلة (قرابة الثلاثة قرون)؛ وذلك لأن القوم لم يكونوا على عقيدة التوحيد الصافية؛ فتعظيم جناب التوحيد مهم للغاية لمن أراد التمكين في الأرض والنصر بالله.
وشهدت فترة حكم السلطان عبد الحميد الثاني بأحداث جسام، حيث تفاقمت الأزمة الاقتصادية في الدولة، واشتد تكالب الدول الاستعمارية لتتقاسم أجزاء الدولة العثمانية فاستولت فرنسا على تونس، وبريطانيا على مصر، وتآمر عليه الصهاينة لأنه رفض التنازل لهم عن شبر واحد من أرض فلسطين فأبعد عن العرش عام 1909م بتهمة الرجعية، وأقام تحت الإقامة الجبرية في قصر بكلر بكي حتى وفاته في 10 فبراير 1918م .
ظروف وصول عبد الحميد الثاني إلى الحكم
وصل "عبد الحميد" إلى الحكم إثر انقلاب؛ قادته حركة جديدة في الدولة العثمانية، تسمى حركة "العثمانيون الجدد"، وهم الشباب الأتراك الذين تأثروا بالحضارة الأوروبية وبالدساتير الغربية؛ حيث عزلوا السلطان عبد العزيز ثم مراد الخامس الذي اتهم بالجنون، وحكم مدة ثلاثة أشهر فقط.
كان هذا الانقلاب مدبرًا من العثمانيين الجدد والسلطان عبد الحميد الثاني الذي اتهم أخاه السلطان مراد الخامس بعدم القدرة على ممارسة الحكم، وقد لاقى الدعم من العثمانيين الجدد الذين اشترطوا على عبد الحميد القيام بإصلاحات في الدولة العثمانية، وتزعم حركة العثمانيين الجدد.
هكذا نلاحظ أن السلطان عبد الحميد وصل إلى الحكم بالوراثة؛ ولكن بعد مؤامرة ضد أخيه الذي اتهم بأنه مختل عقليًا.
ولقد تعاقب على حكمها خلال هذه الحقبة ثمانية وعشرون خليفة، حاولوا أن يستعيدوا قوة الدولة وهيبتها السابقة، وكان السلطان عبد الحميد أقوى هؤلاء الخلفاء الذي حاول أن يعيد القوة إلى الدولة في ظروف عرف فيها العالم الإسلامي منذ أواخر القرن الثامن عشر، العديد من الحركات الدينية التي استطاعت أن تؤثر في الحياة الدينية والفكرية في المشرق العربي، ومنها "الجامعة الإسلامية"، التي ظهرت عند جمال الدين الأفغاني في البداية، وتبناها السلطان عبد الحميد الثاني. (1)
لقد عرف السلطان عبد الحميد الثاني بالطريقة الشاذلية وهي طريقة من الطرق الصوفية؛ فلكل سلطان من سلاطينهم يتبع طريقة من طرق الصوفية ويتباهي بها.
(والذي يجهله الكثير من الناس أن في زمن صلاح الدين بدأ التمكين للصوفية في مصر؛ حتى بلغ ذروته في عهد المماليك فصار المجذوب صاحب الكلمة عند أمراء المماليك، وكان صلاح الدين أشعريًا بل إنه رحمه الله من أسباب انتشار المذهب الأشعري في مصر كما أن ابن تومرت كان من أسباب انتشاره في بلاد المغرب؛ ولما فتح السلطان صلاح الدين الأيوبي مصر 589 هجري؛ نبش الأشاعرة قبور الحنابلة من قبل الخبوشاني)**
ولما جاءت الدولة العثمانية زاد هذا التمكين، حتى صار الإسلام غريبًا في أرض المسلمين، والله المستعان.
عرف السلطان عبدالحميد بحنكته السياسية لقد كان: "رجلاً ألمعيًا أديبًا حساسًا؛ ذا فكر ثاقب يدرك كل ما يدور من حوله بفطنة وسرعة بديهة؛ وكان مجدًا ومجتهدًا يتمتع بطاقة وحيوية عظيمتين ويهتم بكل شيئ ويتابع كل صغيرة وكبيرة في قضايا الأمة". (2)
قلت: ما لفائدة من هذه الصفات التي ليس على عقيدة التوحيد.
استغلال "عبد الحميد" النزعة الإسلامية وشعار الجامعة الإسلامية لتأمين عرشه
لقد تميزت فترة حكم السلطان عبد الحميد الثاني، في محاولة لإعادة بناء ما تهدم من ركائز السلطنة العثمانية، حيث أدرك السلطان العثماني أن استمرارية الدولة لا تكون إلا في كسب ود المسلمين والعرب في مواجهة التدخلات الأوروبية في السلطنة ومحاولات تفتيتها، فعمد عندها عبد الحميد الثاني إلى رفع شعار الجامعة الإسلامية، بهدف تحقيق مكاسب سياسية وتوحيد العالم الإسلامي من حوله، لقد كانت فكرة الجامعة الإسلامية إحدى الأدوات التي اعتمدها عبد الحميد في تقوية سلطته؛ وهو بذلك استطاع من أن يحافظ على ولاء العناصر الإسلامية من حوله. (2)
وقد تمكن السلطان عبد الحميد الثاني من الاستفادة من شعار الجامعة الإسلامية في الميدان السياسي وفي نفس الوقت اندفع نحو الطرق الصوفية بهدف كسب تأييدها، كونها كانت تملك شعبية واسعة في العالم الإسلامي من تركستان حتى شمال إفريقيا آنذاك. (3)
لقد كان اهتمام "عبد الحميد" بالعرب يعود إلى الخوف من الدعوة العربية إلى الانفصال، الذي ظهرت بوادره مع الجمعيات السرية ومنها "جمعية بيروت السرية "، وموقف أوروبا الساعي إلى تفتيت السلطنة، ومحاولات خديوي مصر عباس حلمي الثاني الداعية إلى خلافة مصرية، وظهور الوهابية وتوسعها في شبه الجزيرة العربية وهي الدعوة الإصلاحية للمجدد الشيخ محمدبن عبدالوهاب وهي دعوة إلى التوحيد الخالص الخالي من البدع والشركيات التي كانت منتشرة في الجزيرة العربية وكان العثمانيين السبب في تمكين البدع والأضرحة والقباب والشركيات المنتشرة، وهم من أطلقوا عليها لقب الوهابية؛ على أنها دين ينتسب إلى الشيخ محمدبن عبدالوهاب، وهذا غير صحيح فهي دعوة الأنبياء والرسل؛ دعوة حق اعتمدت على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم التي تفسر هذا الكتاب وتبينه وتدل عليه.
وكذلك أفكار وكتابات عبد الرحمن الكواكبي الداعية الى تعريب الخلافة الإسلامية عبر كتابه "أم القرى "، ونجيب عازوري وأفكاره التي ظهرت من خلال كتاب "يقظة الأمة العربية" الداعي أيضًا إلى خلافة عربية في الحجاز ودولة غير دينية في الشام والعراق، وهو ما أثار خيفة السلطان.
إن السبب الثاني الذي دفع بالسلطان عبد الحميد إلى التقرب من العرب، هو سبب اقتصادي، حيث اهتم السلطان برفع مستوى ازدهار الاقتصاد في ولايات سوريا وحلب وأضنة، لتكون بديلاً اقتصاديًا من الولايات التي خسرتها السلطنة في آسيا وإفريقيا والبلقان، لذلك عمد إلى تقريب بعض الشخصيات العربية واحتوائها ضمن الوظائف الكبرى في الدولة. (4)
كما لاحظ نمو الطرق الصوفية، فقرب إليه شيوخ من الصوفية العرب، لما لهؤلاء من التأثير على العامة فكان المطلوب من هؤلاء الترويج لفكرة "السلطان – الخليفة "، كما انتمى السلطان نفسه إلى الطريقة الشاذلية اليشرطية، وأصبح من مريدي الشيخ محمود أبو الشامات الموجود في دمشق. (5)
وقد لاقت فكرة الجامعة الإسلامية أرضًا خصبة في مصر بالتحديد، واستمرت الدعوة إليها، بعد خلع السلطان عبد الحميد الثاني عام 1909م، من قبل الاتحاديين. (6)
سياسات عبد الحميد في تثبيت أركان حكمه
حكم السلطان عبد الحميد الثاني الدولة العثمانية فترة تزيد على الثلث قرن (1876-1909م)؛ وتميز عهده باتخاذ السياسات التي هدفت إلى :
1.مواجهة أطماع العالم الأوروبي في السلطنة العثمانية .
وكانت أوروبا لها امتيازات وليس عليها مراقبة في امتيازاتها مثل البريد كانت ترسل رسائل سرية وكانت هذه الرسائل من جمعية الاتحاد والترقي وهذا أحد الأسباب الذي مكن الغرب الأوروبي في التدخل في السلطة العثمانية؛ وعلى ذلك قامت جمعية الاتحاد والترقي 1896م، بتجنيد ناظم بك على أن تقوم بالانقلاب الفرقة الأولى من الجيش العثماني المتمركزة في استانبول، والتي كان قائدها كاضم باشا، لتحتل الباب العالي أثناء اجتماع مجلس الوزراء؛ ثم تستحصل على فتوى من شيخ الإسلام بخلع السلطان "عبد الحميد" من منصبه.
وعلى الرغم من ذلك وصل خبر إلى السلطان عبدالحميدالثاني بفكرة الانقلاب وألقي القبض على كل من خطط للانقلاب إلا أنه لم يقوم بالقضاء عليهم وتنفيد أحكام قاسية برغم اعترافهم، حيث نصح البعض وعين البعض في مناصب الدولة العالية؛ وآخرون دفع لهم الأموال الطائلة.
2. مواجهة محاولات تمزيق السلطنة والتي ظهرت من خلال (ثورات البلقان، سقوط شمال أفريقيا في أيدي الاستعمار الفرنسي، والبريطاني والإيطالي ( مصر – ليبيا...)، نظام متصرفية جبل لبنان، المخططات الصهيونية في فلسطين. (7)
3. تبني سياسة الجامعة الإسلامية، ودعا إلى إحياء الخلافة والتمسك بها وهي ليست دولة خلافة لأنهم ليس عرب بل عجم؛ والخلافة في قريش كما في حديث رسول الله: (الخلافة في قريش، والحكم في الأنصار، والدعوة في الحبشة، والهجرة في المسلمين والمهاجرين بعد". الألباني في "السلسلة الصحيحة" 4 / 467
كما قرب إليه الكثير من العلماء ورجال الدين والوعاظ والمتصوفية؛ ليكسب شريعية كبيرة حينما وجد الأوضاع التي حوله تؤدي إلى ضعف موقفه كسلطان للدولة، وفتح المدارس الدينية وزاد من مخصصاتها، وأدخل إلى مناهج التدريس دروسًا عن الإسلام، وكانت تعتمد على الطرق الصوفية والماتريدية وليس على عقيدة التوحيد الصافي، وهنا لن يكون تمكين بما أن المدراس تعتمد على الطرق الصوفية؛ وأنفق الكثير من الأموال على العلماء والدعاة، وأرسل البعثات إلى البلاد الإسلامية لشرح سياسته وكسب الأنصار لها. (8)
4. أكثر من بناء وإصلاح المساجد لا سيما في مكة والمدينة والقدس، وإقامة الاحتفالات الدينية العلنية وأنشأ الزوايا والتكايا وشجع الناس على الحج وسهله لهم عن طريق بناء خط حديد الحجاز. (9)
5. وترافقت سياسة "عبد الحميد" هذه بسلوك شخصي حيث مال إلى الاقتصاد وعدم التبذير، وعدم شرب الخمر، وأحاط حياته بالتقى والتقشف.. وكان يقوم بواجباته الدينية كالصلاة والصيام في رمضان، وتوزيع الصدقات، في محاولة واضحة منه إلى جمع المسلمين من حوله، ليعلن بعدها تبنيه لفكرة "الجامعة الإسلامية". (10)
إن تبني السلطان عبد الحميد فكرة الجامعة الإسلامية أتت نتيجة لعوامل مختلفة أبرزها :
-محاولة منه لمواجهة الغزو الثقافي الأوروبي للدولة العثمانية .
-محاولة النهوض بالدولة بعد فترة من الضعف الذي أصابها .
-محاولة توحيد العالم الإسلامي في إطار الدولة العثمانية من جديد. (11)
وكان من أبرز إنجازاته تحت إطار الجامعة الإسلامية، بناء خط سكة حديد الحجاز 1901م، الذي ربط بين الآستانة والمدينة المنورة مرورًا بسوريا، وكان هذا المشروع قد نفذ بأموال جمعت من تبرعات المسلمين من مختلف بلدانهم، واستمر جمع الأموال مدة ثمانية أعوام.
ويذكر جورج انطونيوس: "أن تنفيذ المشروع كان ضربة خبير في السياسة، فقد أثار الحماسة البالغة في جميع ديار الإسلام، وربما كان له من الآثار في تثبيت مكانة الخلافة أكثر من جميع خطط عبد الحميد الأخرى". (12)
الهوامش :
======
(1) إكمال الدين أوغلو، قراءة لتاريخ الدولة العثمانية وعلاقاتها بالعالم العربي من خلال كتب التاريخ المدرسية المقررة في مصر بين عامي 1912-1980، مجلة منبر الحوار، العدد 36، السنة 1998، صـ 164.
** انظر سياسة صلاح الدين الأيوبي في بلاد الشام والجزيرة –رسالة دكتوراة- جامعة بغداد. د.عبد القادر نوري
موقف ابن تيمية من الأشاعرة 1/ 149ـ150
المقريزي ذكر في الخطط عند حديثه عن نشأة المذاهب وانتشارها في مصر وسبب انتشار المذهب الأشعري في مصر وقد كان صلاح الدين رحمه الله يحفظ متنًا في العقيدة الأشعرية ويحفظه من حوله من الصغار .
الأزمة العقيدية بين الأشاعرة وأهل الحديث صـ 26 .
(2) فدوى نصيرات، عبد الحميد الثاني ودوره في تسهيل السيطرة الصهيونية على فلسطين، مجلة المستقبل العربي، العدد 422، نيسان 2014، صـ 39.
(3) حسان حلاق، دور اليهود والقوى الدولية في خلع السلطان عبد الحميد الثاني من العرش، بيروت: دار بيروت المحروسة،ط1، 1982، صـ 45_48.
دعوة الشيخ محمدبن عبدالوهاب على الكتاب والسنة.. عبدالعزيزآل الشيخ.
(4) عبد الرؤوف سنو، السلطان عبد الحميد الثاني والعرب: الجامعة الإسلامية وأثرها في احتواء القومية العربية، حوار العرب، بيروت : 2005، صـ 4-5، بحث منشور على شبكة الإنترنت.
(5) عبد الكريم رافق، تاريخ الجامعة السورية البداية والنمو 1901-1946، دمشق : 2004، صـ 10-11.
(6) إكمال الدين أوغلو، المرجع السابق، صـ 164 .
*أسباب خلع السلطان عبد الحميد الثاني 1876-1909، يوسف حسين عمر صـ 118.
(7) رفيق شاكر النتشه، السلطان عبد الحميد الثاني وفلسطين، القاهرة: مكتبة مدبولي، ط5، 1990، صـ 161- 115-153.
(8) علي سلطان، تاريخ الدولة العثمانية، طرابلس الغرب: مكتبة طرابلس العلمية العالمية، 1991، صـ 394.
(9) William oschsenwold .the hijaz ,rail road .vergina 1980 pp.118-150
(10) علي سلطان، المرجع السابق، صـ 349.
*صالح سعداوي، مذكرات الأميرة عائشة عثمان أوغلي، عمان : دار البشير للنشر والتوزيع، ط1، 1991، صـ 80.
(11) عبد المنعم الهاشمي، الخلافة العثمانية، بيروت: دار ابن حزم، ط1، 2004، صـ 529-530.
(12) جورج انطونيوس، يقظة الأمة العربية، بيروت: دار العلم للملايين، ط8، 1987، صـ 142.
اقرأ المزيد
كان للمرأة نصيب كبير في دعوة الإمام المجدد محمد بن عبدالوهاب، فكان لبناته وأحفاده دور في نشر العلم بين النساء في الدرعية وخارجها
فجر المؤرخ الكويتي، الدكتور سلطان الأصقه، مفاجآت مدوية حول شخصيات تاريخية يحاول الإعلام التركي تصديرها والترويج لها خلال المرحلة الحالية
يعتقد الكثير من العرب بأن الحزب الشيوعي الفلسطيني كبقية الأحزاب اليسارية العربية
كشف الدكتور سلطان الأصقه، المؤرخ الكويتي، عن بشاعة سلاطين الدولة العثمانية في القتل والتعذيب، مؤكدًا أنهم تخلصوا من ضحاياهم عبر إغراقهم بالماء أحياء
استعرض الدكتور سلطان الأصقه، المؤرخ الكويتي، حال الحرمين الشريفين في عهد الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود، مقارنة بالعهد العثماني، مستشهدًا بوقائع ووثائق