"مقصلة الطوارئ".. تقرير حقوقي يكشف بشاعة الحكم "الأردوغاني" الديكتاتوري
أصدر مركز نسمات وموقع زمان، تقريرًا حقوقيًا يرصد انتهاكات "الطوارئ" في تركيا، ويكشف بشاعة الحكم "الأردوغاني" الديكتاتوري.
ففي فجر الخميس الموافق 19 يوليو/تموز 2018 رفعت تركيا حالة الطوارئ السارية في البلاد منذ سنتين بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 يوليو/تموز 2016، وذلك بعد أقل من شهر على انتخابات فاز فيها أردوغان بولاية جديدة بصلاحيات رئاسية معززة بعد تعديل دستوري موضع جدل أقر عام 2017.
ورغم وعوده الانتخابية بإنهاء حالة الطوارئ عقب فوزه فقد حرص أردوغان على استخدام مقصلة الطوارئ للقضاء على بقية معارضيه قبل 24 ساعة من إعادة تنصيبه رئيسًا للبلاد بصلاحيات شبه مطلقة، فقد نشرت السلطات التركية في الصحيفة الرسمية آخر مراسيم حالة الطوارئ رقم 701 التي نصت على فصل 18.632 موظفًا حكوميًا وإغلاق 12 جمعية و3 صحف وقناة تلفزيونية بجانب إبعاد 199 أكاديميًا. وتضمنت قائمة المفصولين 8.998 موظفًا بمديرية الأمن و1.052 موظفًا بوزارة العدل و38 موظفًا بوزارة الخارجية و240 موظفًا برئاسة الشؤون الدينية و31 موظفًا من وزارة الداخلية من بينهم 4 نائب والي و4 محافظين و192 موظفًا من قيادة خفر السواحل و3.077 موظفًا من قيادة القوات البرية و1.126 موظفًا من قيادة القوات البحرية و632 موظفًا من قيادة قوات الدرك.
وبينما بلغ عدد الموظفين المفصولين من أعمالهم بموجب المرسوم الأخير الذي ضم 461 صفحة نحو 18.632موظفًا، أعيدت الرتب العسكرية لنحو 1.526 شخصًا سبق وأن تم فصلهم من الجيش والشرطة.
وتضمن المرسوم أيضا إغلاق 12 جمعية من بينها وقف الفرقان وقناة Avantaj TVوصحف نبض الشعب والديمقراطية الحرة وولات. وقد تمت مصادرة ممتلكات هذه الجمعيات والصحف والقناة التلفزيونية ونقلت ملكيتها إلى خزانة الدولة.
ورغم أن فرض حالة الطوارئ كان لفترة مؤقتة في البداية مدتها ثلاثة أشهر فقد جرى تمديدها سبع مرات متتالية، قبل أن تعلن الحكومة قرارها بوقف عملية التجديد مرة أخرى. غير أن محللين يرون أن أردوغان يعمل على إرساء حالة الطوارئ لثلاث سنوات لاحقة، لكن تحت شعار مكافحة الإرهاب، أي تغيير الاسم فقط نظريًّا، وتشريع قوانين تطلق يد السلطة الحاكمة في البلاد بذريعة الإرهاب. وهو ما قوبل بالتحفظ من قبل الأوروبيين الذين حذروا أنقرة من تمديد حالة الطوارئ تحت مسمى مختلف، ومن خلال الأبواب الخلفية.
وهو ما تم بالفعل حيث أقر البرلمان التركي في وقت متأخر من يوم الثلاثاء الموافق 24 يوليو/تموز 2018 تشريعًا أمنيًا جديدًا لا يختلف عن قانون الطوارئ تحت ذريعة مكافحة الإرهاب.
يمنح هذا القانون الجديد سلطات موسعة لحكام الأقاليم ويمدد فترات الاحتجاز ويتيح إقالة موظفين بالحكومة إذا كانت لهم صلات أو اتصالات بالمنظمات التي تعدها الحكومة إرهابية أو ما ينظر إليها على أنها تهديدات أخرى للأمن القومي. ويرى محللون أن القانون الجديد هو قانون الطوارئ ولكن بصيغة مختلفة وتطبيق مختلف جزئيًا.
كما أبدى معارضون وناشطون في مجال حقوق الإنسان تحفظهم على هذا القانون الذي يعمل على تقنين دائم لحالة الطوارئ، فقد أفاد المتحدث باسم حزب الشعوب الديمقراطي الكردي ساروهان أولوج أن هذا المقترح أثبت مرة أخرى أن حديث العدالة والتنمية عن إلغاء حالة الطوارئ مجرد كلام لا حقيقة له.
وأضاف أولوج أن السلطات تجعل الأمر يبدو وكأنهم يلغون حالة الطوارئ غير أنهم في الواقع يعملون على جعلها دائمة بتعديلات قانونية لكل إجراءات الحظر التي اتخذت في ظل حالة الطوارئ. وأشار أولوج أيضا إلى الصلاحيات الاستثنائية التي يمنحها المقترح للولاة قائلاً: “سيتولى ولاة 81 مدينة إدارة البلاد برفقة شخص واحد، الصلاحيات الاستثنائية الممنوحة إلى الولاة تتضمن موادًا مزعجة للغاية. فهم يحوّلون حالة الطوارئ إلى وضع دائم من خلال صلاحيات الولاة وتعديل في القوانين”.
كما ذكرت رئيسة جمعية حقوق الإنسان أرين كيسكين أن القانون الجديد والتعديلات المرافقة له تفوَّق على مفهوم الطوارئ...
وسيستعرض هذا التقرير حصاد عامين جرى فيهما تطبيق مراسيم الطوارئ وأبرز المبادئ القانونية التي انتهكتها هذه المراسيم.
أولاً: حصاد عامين من الطوارئ
إن المتابع للشأن التركي يظهر له جليًّا أن حالة الطوارئ سمحت لأردوغان بإصدار مراسيم لها قوة القانون أحدثت على مدى عامين تغييرًا عميقًا في التشريعات التركية. وبموجب التعديل الدستوري، يحتفظ الرئيس بهذه الصلاحية بعد رفع حالة الطوارئ.
لقد توسعت الحكومة في إصدار مراسيم الطوارئ ليس فقط في الشؤون الضرورية بل في الأمور العادية التي تحتاج للمناقشة الاجتماعية والبرلمانية لتأثيرها المباشر على مصالح فئات مختلفة من المجتمع.
فالحكومة استخدمت مراسيم الطوارئ لمعاقبة نواب البرلمان من خلال نزع الحصانة البرلمانية وإلقاء القبض على النواب المعارضين أو المستقلين، وكذلك السماح لجهاز الاستخبارات بإجراء عمليات غير قانونية (الخطف والتهديد بالقتل) داخل تركيا وخارجها دون أدنى مسائلة قانونية. وفي أمور أخرى ليس لها أدنى علاقة بحالة الطوارئ مثل تغيير الساعة لحلول موسم الشتاء، أو منع بعض البرامج التلفزيونية.
وخلال عامين من قرار حالة الطوارئ الذي أعلنه مجلس الوزراء في 21 يوليو/تموز عام 2016 تم إصدار 37 مرسومًا، تضمنت بعض هذه المراسيم فصل عشرات الآلاف من الموظفين وتضمن البعض الآخر حظر برامج الزواج وتعديلات بشأن الإطارات الشتوية للسيارات.
وبعد يوليو/تموز من عام 2016 تم حبس عشرات الآلاف من المواطنين واعتقال أضعافهم بسبب الدعاوى القضائية الخاصة بالمحاولة الانقلابية.
فبحسب آخر الإحصائيات بلغ عدد الذين تعرضوا للاستجواب خلال العامين الماضيين ما يقرب من 400.000 فرد، اعتقل منهم 80.147 فردًا، وتم احتجاز 141.558. أما الذين فصلوا من وظائفهم فقد بلغوا 170.372، منهم 17.844 ضابط جيش تم عزلهم من المؤسسة العسكرية، و5.335 محافظًا وإداريًّا تمت إقالتهم، و33.417 شرطيًّا تم فصلهم، و4.463 قاضيًا ومدعيًّا عامًا تم عزلهم، و16.409 طلاب عسكريين فصلوا من أكاديمياتهم العسكرية. بالإضافة إلى 8.573 أكاديميًا في الجامعات المختلفة و55.288 مدرسًا ومديرًا إداريًّا في وزارة التعليم، و7.220 في وزارة العدل، و7.249 طبيبًا وموظفًا في وزارة الصحة، و3.330 إمامًا وواعظًا في إدارة الشؤون الدينية.
أما عن المؤسسات التي راحت ضحية هذه المراسيم، فقد تم إغلاق 1.284 مدرسة خاصة، و800 مسكن طلابي، و15 جامعة خاصة و560 جمعية خيرية، و950 معهدًا من معاهد التحضير الجامعي الأهلية، بالإضافة إلى 1.125 نقابة مهنية، و19 اتحادًا من اتحادات رجال الأعمال الذي يضم كل واحد فيه آلاف الجمعيات المحلية.
أما عن المؤسسات التي أغلقت في مجال الإعلام بموجب مراسيم الطوارئ فقد قارب عدد هذه الوسائل التي أغلقت 200 وسيلة إعلامية وتم حجب آلاف المواقع والمدونات الإلكترونية، كما تم اعتقال 319 صحفيًّا، وصدرت مذكرات اعتقال بحق 142 صحفيا آخرين مشردين خارج البلاد.
وعقب الاستفتاء الدستوري الذي شهدته تركيا في 16 أبريل/نيسان عام 2017 أضيف لهذه المراسيم تعديلات لجعل القوانين التي تنظم النظام البرلماني تتوافق مع النظام الرئاسي الجديد. وبموجب المرسوم الصادر في 23 يوليو/تموز عام 2016 تم مد فترة الاحتجاز لمدة 30 يومًا.
وفي يناير/كانون الثاني من عام 2017 تم تخفيض فترة الاعتقال إلى 7+7 يومًا. وفي اليوم نفسه تم إلغاء التعديل الذي منح مدعي العموم إمكانية منع لقاءات المعتقلين مع محاميهم لمدة خمسة أيام.
وكشف حزب الشعب الجمهوري المعارض في تقريره الخاص بالذكرى السنوية الثانية للمحاولة الانقلابية عن انتحار 60 شخصًا على الأقل من الذين اتخذت ضدهم إجراءات قانونية في إطار التحقيقات، بينما أقدم 4 أشخاص على محاولة الانتحار. ووقعت 8 من هذه الحالات في السجون أو في المعتقلات أو أثناء الاعتقال.
كما أفادت الدراسة التي أجرتها النسخة التركية من موقع بي بي سي أنه خلال تلك الفترة تم اعتقال شخصيات من فئات مختلفة من بينهم صحفيون وأكاديميون وسياسيون. وعقب رفع الحصانة عن النواب البرلمانيين تم اعتقال 12 من نواب حزب الشعوب الديمقراطي الكردي ومن بينهم رئيس الحزب خلال الحملة الأمنية التي شنتها قوات الأمن في 4 نوفمبر/تشرين الثاني عام 2016، ولاحقًا قضت المحكمة بحبس تسعة منهم. وخلال الأشهر اللاحقة ارتفع عدد نواب الحزب المعتقلين إلى 15 نائبًا، وفي الوقت الذي اعتقل فيه أكثر من عشرة نواب للحزب في فترات مختلفة حُبِس كذلك العديد من رؤساء البلديات.
وكشف التقرير الذي نشرته جمعية حقوق الإنسان ووقف حقوق الإنسان عن اعتقال 361 من أعضاء حزب الشعوب الديمقراطي الكردي خلال الفترة بين 28 أبريل/نيسان و21 يونيو/حزيران، كما اعتقل نائب حزب الشعب الجمهوري أنيس بربر أوغلو. وتشير إحصاءات وزارة الداخلية الخاصة بشهر يناير/كانون الثاني من العام الجاري إلى فرض الوصاية على 92 بلدية من بين 102 بلدية تابعة للحزب الكردي.
كما أسفر فرض الخضوع لمسح أمني قبل الدخول إلى العمل الحكومي عن اتخاذ بعض خريجي كليات الطب قرارًا بمغادرة البلاد؛ إذ لا يستطيع خريجو كليات الطب العمل في القطاع الخاص قبل إنهاء الخدمة الإجبارية في القطاع الحكومي. ومن ثم لجأ البعض منهم إلى دول أخرى لممارسة عملهم نظرًا لعجزهم عن إتمام الخدمة الحكومية الإجبارية لفشلهم في تجاوز التحقيقات الأمنية، بينما لجأ البعض الآخر إلى امتهان مهن ووظائف أخرى بعيدة عن مجال تخصصهم، هذا فضلاً عن فقد كثير من الأشخاص عملهم في القطاع الخاص، وإن كان يصعب تحديد أعدادهم بشكل دقيق. كما تلقت لجنة الطوارئ 108.905 طلب احتجاج على الفصل.
وتزامنًا مع إعلان حالة الطوارئ فرضت السلطات على موظفي القطاع الحكومي الحصول على وثيقة من المؤسسات التي يعملون فيها عند مغادرتهم البلاد، وفي نوفمبر/تشرين الثاني عام 2017 تم إلغاء هذا الشرط. وفي ظل الطواري أيضًا فُرضت قيود كثيرة على عديد من جوازات السفر.
كما أقامت تركيا -في ظل الطوارئ- استفتاء دستوريًّا بجانب انتخابات عامة جمعت بين الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في آن واحد، مما جعلها عرضة لانتقادات مؤسسات محلية ودولية مختلفة.
وقد كشف التقرير الذي نشرته نائبة حزب الشعب الجمهوري المعارض زينب ألتي أوك أتاكلي قبل شهر من استفتاء عام 2017 عن اعتقال 115 شخصًا ممن يديرون الحملة الرافضة للتعديلات الدستورية. وحدثت 107 واقعة تعرض خلالها السياسيون والمدنيون والقائمون على صناديق الاقتراع لأشكال مختلفة من التضييق والمنع.
ثانيًا: انتهاك مراسيم الطوارئ للمبادئ القانونية
لقد تمتع الرئيس رجب طيب أردوغان بفضل حالة الطوارئ بقوة كل سلطات الدولة التنفيذية والتشريعية والقضائية؛ فقد كان هو المشرع والقاضي والمتحدث باسم الأمة، وكان يقرر قبل القضاء ما الذي يعد جريمة ومن هو المذنب وما العقوبة المناسبة لجريمته، ويطالب المحاكم باتخاذ اللازم. فقد صرح في يونيو/حزيران 2017 بقوله: “لقد أدانهم الشعب جميعه وحكم عليهم بأقسى عقوبة على خيانتهم، ولا يوجد لدي أدنى شك في أن المحاكم التي تصدر حكمها باسم الأمة ستحكم وفقا لما قررته الأمة”.
وفي حالة ما لم تحكم المحاكم طبقًا لما يوافق سياساته الخاصة، كان يحرض عموم الشعب على تنفيذ الحكم بأنفسهم فقد قال:” لن ينجو أي واحد من هؤلاء القتلة من المصير المحتوم الذي ينتظرهم، ولن يساعدهم الدفاع الذي يقدمونه أثناء المحاكمة عندما يتعفنون في السجون، وعندما تنتهي مدة حبسهم ويطلق سراحهم، شعبنا هو من سينفذ فيهم العقوبة اللازمة (القتل) أينما وجدهم في الشوارع”.
ولا يخفى ما في هذا من تحريض صريح ضد المشتبه بهم، الذين امتثلوا لحكم القانون الذي صدر في جرائم لفقت لهم ظلمًا وجورًا، وسجنوا في ظروف غير إنسانية وتم تعذيبهم، بأنهم لن يسلموا بعد خروجهم من السجون، فرئيس البلاد يدعو المواطنين للقتل العام، واستخدام العنف ضد أفراد بعينهم دون أي اعتبار للقانون.
المثير للقلق هو أن القاعدة الانتخابية العريضة التي تؤيد الحزب الحاكم لديها نزعة واضحة لاستخدام العنف والقتل، ففي حادثة وقعت في مدينة “سامسون” التركية انهال أحد المؤيدين المتعصبين لأردوغان بالضرب المبرح المؤدي للقتل على رئيس قسم شرطة سابق أمام حشد كبير من الناس وتم تسجيل هذه الحادثة ونشرها على مواقع التواصل الاجتماعي.
لقد صار استخدام العنف ظاهرة ليس فقط ضد الأشخاص بصورة فردية بل ضد المنشآت والمؤسسات التي تستهدفها الحكومة التركية، فلقد تعرضت العديد من المنشآت المرتبطة بحركة كولن من مكتبات ومدارس وجامعات للنَّهب والتخريب والمداهمة. وفي مظاهرات قادتها شخصيات بارزة من الحزب الحاكم -معروفة بتطرفها الفكري-طالبوا الجماهير باعتبار كل ممتلكات حركة الخدمة غنيمة يمكن الاستيلاء عليها، وهذا الفكر لا يختلف عن العقلية التي كانت تدير ما يسمى الدولة الإسلامية بالعراق والشام (داعش).
وفي سياق آخر وبينما كان المدعى عليهم محرومون من حق الدفاع عن أنفسهم أمام المحكمة، كانت هيئة المحكمة تخضع للضغط السياسي الذي تمارسه الحكومة، ففي العديد من المحاكمات الهزلية كان أردوغان يرسل ممثليه من المحامين الذين يتصرفون في جلسات المحاكمة كأنهم مراقبون للقضاة. ليس هذا فحسب بل إن أردوغان يؤكد مراقبته للمحاكمات من خلال مستشاريه في تصريحاته، فيقول في أحد تصريحاته الإعلامية في يونيو/حزيران 2017: “أنا أراقب بنفسي وعن كثب ما يدور بجلسات المحاكم خاصة في أنقرة وإسطنبول. فمستشارو الرئاسة يعدون لي تقارير مفصلة عن كل شيء يدور في المحاكمات".
وعلى الرغم من حظر النشر المفروض على الإعلام بشأن ما يجري في قاعات المحاكم، يقوم نواب البرلمان التابعون للحزب الحاكم بنشر صور من داخل قاعات المحاكم في مختلف وسائل الإعلام ليثبتوا وجودهم ومراقبتهم للقضاء. بل إن بعض هؤلاء السياسيين الموالين للحزب الحاكم يذهبون إلى ما هو أبعد من نشر الصور فيعلقون على أداء هيئة المحكمة ويقولون مثلا: “ما كان ينبغي للقاضي أن يفعل هكذا، أو ما قاله محامي الدفاع هذا كذب محض، على هيئة المحكمة ألا تقوم بتقييده في سجل الجلسات”، وهذا يعد تدخلاً صارخًا من قبل السياسيين في عمل المحكمة، هذا التدخل السافر في أداء المحكمة والضغوط التي تمارسها الحكومة على المحاكم، يجعل استقلالية القضاء ووجود محاكمات عادلة أمرين مستحيلين في تركيا.
وبالنظر والتحليل لقرارات المحاكم، يظهر جليًّا أن الانتهاكات التي تحدث من قبل الحكومة لا تتوقف عند حدود الضغط على المحاكم، بل تتعداها إلى الاحتجاز التعسفي، والاختطاف القسري لبعض المواطنين، وحالات وفاة داخل السجون تدور حولها الشبهات وهذه الحالات تتزايد بمرور الوقت. كما يظهر أن الحكومة لا تراعي لا الضرورة ولا الوقت المناسب أثناء إصدارها لمراسيم الطوارئ، أما استقلالية القضاء وفاعلية القانون ودرجات التقاضي، فكلها أضحت حبيسة الكتب ولا تطبق لأن المحاكم الابتدائية ومحكمة الاستئناف ومحكمة النقض بالإضافة للمحكمة الدستورية، جميعها أصبحت رهن رغبات وسياسات رجل واحد هو أردوغان.
أما عن المبادئ القانونية التي انتهكتها مراسيم الطوارئ فيمكن أن نسرد أهمها فيما يلي:
-1 انتهاك مبدأ لا عقوبة إلا بنص قانوني.
لقد استقر في القانون الدولي أنه لا يمكن إدانة الشخص إلا إذا ارتكب فعلاً نص القانون على أنه جريمة يُعاقب عليها، لكن هذا المبدأ الأساسي تم انتهاكه في تركيا، فلقد ُزجَّ الآلاف من المواطنين الأتراك في السجون دون أن يقوموا بأي عمل موصوف بالتجريم وفقا للقانون الجنائي.
هذا بالإضافة إلى أن تركيا تخضع لاتفاقية حقوق الإنسان الأوروبية (ECTHR)وقد ورد في المادة 7 منها: “يجب ألا يتم إدانة أي إنسان على فعل لا يذكر القانون المحلي أو الدولي أنه جريمة وقت فعل الشخص له، كما لا يجوز تطبيق القوانين المستحدثة بأثر رجعي، فلا يعاقب الشخص على فعل لم يكن جريمة وقت ارتكابه له أو تطبيق عقوبة مشددة لم يقرها القانون إلا بعد ارتكابه الفعل".
وقد أوضحت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان (ECTHR)أهمية المادة السابعة من الاتفاقية بقولها: “الغرض الأصلي من إضافة المادة السابعة في الاتفاقية أن يعرف الشخص عواقب ما سيرتكبه أولاً، فإذا ما أقدم على جريمة يجب أن يكون واضحًا لديه عواقب ما يقحم نفسه فيه، فإن كان الفعل غير معاقب عليه قانونًا أثناء ارتكاب الفرد له فكيف لمحكمة أن تعاقبه وهو لا يعرف بأن ما فعله فعل مجرم من عدمه؟".
كما أن المادة 15 من اتفاقية حقوق الإنسان الأوروبية التي وقعت عليها تركيا ومن المفترض أنها تلتزم بما ورد فيها ككل الأعضاء الموقعين على الاتفاقية، تنص على أنه يحق لتركيا في حالة إعلان الطوارئ الانتقاص المؤقت لبعض الحقوق والحريات مع مراقبة وإشراف من الاتحاد الأوروبي، وقد استغلت الحكومة التركية هذا النص بعد خمسة أيام فقط من محاولة الانقلاب، رغم أن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان أكدت على عدم مشروعية الانتقاص أو انتهاك ما ورد في المادة السابعة من المعاهدة حتى في ظروف الحروب أو الطوارئ. وقد تغافلت الحكومة التركية تماما ما تقره المادة السابعة من المعاهدة، ففي ظل حالة الطوارئ كان يتم إلقاء القبض على المعارضين لسياسة الحكومة دون وجود نص يعاقب معارضي الحكومة، كما أن الحكومة كانت تلقي القبض على بعض الأشخاص وتقوم بإغلاق المنشآت بدعوى وجود علاقة تربطها بحركة فتح الله كولن، رغم عدم وجود نص يجرم الانضمام للحركات المدنية، وحركة كولن من الحركات المدنية وتتنوع نشاطاتها بين فتح المدارس ونشر التعليم وإنشاء مراكز للحوار وتقديم مساعدات للفقراء.
فالتجريم يجب أن يتم وفقًا للإجراءات التشريعية والقانونية، كما يجب أن يكون القانون المجرِّم للفعل لا يتعارض مع نصوص الدستور التركي والمعاهدات الدولية التي وقعت عليها تركيا، ولكن الحكومة التركية وفي ظل قيادة أردوغان للبلاد أصبحت تنتهك القواعد الأساسية وبصورة مستمرة. فقد تعرض حوالي 400.000 مواطنًا تركيًّا لانتهاك ممنهج لحقوقهم الأساسية في أثناء الاستجوابات التي تعرضوا لها، كما تم اعتقال أكثر من 80.000 مواطنًا بتهم مفبركة لا أصل ولا صحة لها. وفي ظل حالة الطوارئ أصبح وجود علاقة تربط المواطن مع حركة كولن أمرًا كافيًا لاعتقاله وحبسه واعتباره “إرهابيًّا”، دون النظر أو التحقيق أو البحث عن كفاية الأدلة، كما أصبحت تهمة العضوية في حركة كولن هي الجريمة الأكثر شيوعًا، والمثير للسخرية أنه لم تقضِ محاكم الاستئناف بـ”إرهابية الحركة”، وهو الأمر الذي يجعل لصق صفة “إرهابية” بالحركة أمرًا غير مقبول، حتى وإن صدر حكم باتٌّ بكون الحركة “إرهابية” فهذا أيضًا لا يسوغ الحكم على الأفراد المعتقلين بحكم قانون الإرهاب، لأن انضمامهم للحركة إن ثبت فإنه لم يكن بمثابة جريمة وقت إلقاء القبض عليهم.
وقد أعدت مفوضية فينسيا تقريرًا عن الأوضاع في تركيا جاء فيه “لقد تجاوزت الحكومة التركية كل الحدود القانونية المنصوص عليها بالدستور التركي، والمنصوص عليها بالقانون الدولي في إجراءاتها الصادرة أثناء حالة الطوارئ”، كما نبه التقرير على وجود حقوق وحريات أساسية لا يمكن انتهاكها والتعدي عليها أثناء حالة الطوارئ، وورد أيضا بالتقرير أن “أي قيود تفرضها الدولة على الحريات أثناء حالة الطوارئ يجب أن تكون الضرورة ملحة في فرضها كما يجب عدم التوسع في استخدام تلك القيود وألا تتعدى الضرورة المنشِئة".
كما صرحت مفوضية فينسيا ” أن المعايير التي تطبقها الحكومة التركية في ظل حالة الطوارئ لا تتوافق مع كون حالة الطوارئ مؤقتة” فعلى سبيل المثال تم “الفصل النهائي للموظفين العموميين وليس توقيفهم عن العمل بصور مؤقتة” كما أكدت المفوضية في تقريرها على أن فصل آلاف الموظفين العموميين تم بصورة جماعية عن طريق قوائم أعدت مسبقًا وتم إدراجها في مراسيم الطوارئ، ولم تتم معاملة كل حالة على حدة بالنظر للأدلة المقدمة ضد الموظف، كما ورد في التقرير “إن الإجراءات الإدارية اللازم اتباعها في فصل الموظفين العموميين لم يتم مراعاة أي منها ولم تحترمها الحكومة على الإطلاق".
كما ذكر تقرير المفوضية قولها: “يبدو واضحًا وبصورة جلية أن الفصل الجماعي للموظفين بموجب مراسيم الطوارئ قد حرم عشرات الآلاف من الموظفين من التظلم أمام القضاء” كما علقت المفوضية على فصل الموظفين العموميين بقولها: “لقد تم فصل الآلاف من الموظفين العموميين بذريعة وجود علاقة تربطهم بحركة كولن التي صنفتها الحكومة على أنها “إرهابية”، ولكن هذا المصطلح لم تتكلف الحكومة عناء شرحه ولا توضيح ماهية العلاقة التي سيتم العقاب عليها”.
لم تقف أضرار تصفية الموظفين على خلفية مراسيم الطوارئ عند فصلهم من عملهم تعسفيًّا، بل مهد الطريق أيضًا لمحاكمتهم جنائيًّا. فقد ورد في مراسيم الطوارئ المنشورة بالجريدة الرسمية أسماؤهم وتم وصمهم دون أي مراجعة قضائية أو إدارية بـ “أنهم إرهابيون أو على علاقة بمنظمات إرهابية”. فمرسوم الطوارئ رقم 667 الصادر بتاريخ 23 يوليو/تموز 2016 ورد فيه قرار الفصل الجماعي للموظفين العموميين وتم استخدام المرسوم لفتح تحقيق جنائي بحق هؤلاء الموظفين.
أما الخطاب الذي أصدرته المحكمة الدستورية لتبرير فصل اثنين من قضاتها فهو أمر يتجاوز كل الانتهاكات القانونية الواردة في سياق فصل الموظفين العموميين، فمرسوم الطوارئ رقم 667 ينص على أن “كل من يعتبر عضوًا أو له علاقة، أو تربطه رابطة ما بمؤسسة أو منظمة إرهابية، أو مجموعة أو منظمة يصفها الأمن القومي بأنها إرهابية أو أنها تمثل خطرًا على الأمن القومي يجب فصله مباشرة من عمله".
إن هذه المعايير الضبابية التي وردت في مرسوم الطوارئ يتم استخدامها في فصل الموظفين العموميين بمن فيهم القضاة من عملهم، بل لقد زادت من صلاحيات جهاز الشرطة في القبض على المعارضين لسياسات حكومة أردوغان.
-2 انتهاك مبدأ عدم رجعية القوانين.
إن مبدأ عدم رجعية القوانين، ينص على عدم سريان أحكام القوانين الجنائية على الماضي، كما أنه لا يجوز اعتبار الفعل جريمة دون صدور قانون يعرف الجريمة بصورة واضحة. هذه المبادئ الهامة يتم تجاهلها تمامًا في حالة القبض على أفراد حركة كولن، بل على كل المعارضين والمنتقدين لسياسات الحكومة بصفة عامة.
إن السوابق القضائية الصادرة عن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان واضحة للغاية في هذا الشأن. فالمادة 7 من الاتفاقية لا تضمن فقط مبدأ عدم سريان قوانين جنائية أكثر صرامة بصورة رجعية، بل أيضا تنص على مبدأ رجعية القوانين الجنائية الأكثر تساهلاً. “وهذا المبدأ يتجسد في القاعدة التي تنص على أنه إذا وجد اختلاف بين القوانين الجنائية القديمة والحديثة وكانت القوانين الأخيرة أكثر تساهلاً فيجب على القاضي المنظور أمامه القضية أن يحكم بالقانون الأكثر مراعاة لمصلحة المتهم” وهو ما التزمت به المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان.
إن الحكومة التركية تقوم بالقبض على المواطنين الأعضاء في مؤسسات مدنية تم تسجيلها قانونيًّا، مخالفة بذلك الدستور التركي والمعاهدات الأوروبية لحقوق الإنسان، بالرغم من عدم وجود أي نص قانوني يجرم الانضمام للمنظمات والمؤسسات المدنية. فعلى سبيل المثال، كل المدارس والجامعات وبنك آسيا والمنظمات الاتحادية والمؤسسات المتخصصة ومنظمات المساعدات الإنسانية وقنوات الإعلام المرئي والمسموع والصحف والمجلات التي أنشأها رجال أعمال يعتقد ارتباطهم بحركة كولن، أصبحوا إرهابيين بين عشية وضحاها ومباشرة بعد محاولة الانقلاب الفاشل في 15 يوليو/تموز 2016، بينما الحقيقة أن كل هذه المؤسسات والمنشآت السابق ذكرها كان لها وضع قانوني مستقر، إلى أن أعلن أردوغان معاداته لها بعد تحقيقات الفساد الشهيرة في 17/25 ديسمبر/كانون الأول 2013. هذه التحقيقات أثبتت تورط أردوغان نفسه وأفراد عائلته وعدد من وزراء حكومته وأبنائهم في فساد مالي ضخم قدر بمئات المليارات وقتها. والمثير للجدل أن بعض هذه المؤسسات قد صادرتها الحكومة قبل محاولة الانقلاب الفاشلة، والأعجب أن أردوغان وصف تحقيقات الفساد وقتها بأنها انقلاب ضده وضد حكومته، وأعلن الحرب منذ ذلك الوقت على حركة كولن؛ وذلك رغم عدم وجود أي أدلة تثبت مشاركة حركة كولن في تحقيقات الفساد.
وقد أشار مفوض المجلس الأوروبي لحقوق الإنسان “نيل مويزينيكس” في أكتوبر/تشرين الأول 2016 إلى الممارسات المتناقضة التي مارسها أردوغان ضد حركة كولن، وأشار إلى أن حركة كولن قد طورت من نفسها وقدمت خدمات ومؤسسات تشمل كل قطاعات المجتمع، وكان لها تأثير إيجابي واضح في تطور المجتمع التركي من خلال خدماتها التعليمية والمدنية والتجمعات التجارية ووسائل الإعلام وفي قطاع المال والأعمال”. وهذا يعني أن كثيرًا من المؤسسات المرتبطة بحركة كولن كان لها وضع قانوني مستقر وكانت تمارس عملها بصورة طبيعية حتى وقت إغلاقها، بل من الممكن القول: إن أغلبية الشعب التركي كانت لهم علاقات بمنشآت ومؤسسات الحركة بصورة أو بأخرى، ومن النادر أن تجد أحدًا لا تربطه علاقة مع حركة كولن من الشعب التركي".
-3 انتهاك مبدأ معقولية الأدلة والاتهام.
لقد استخدمت الحكومة التركية بعض الذرائع التي سنورد ذكرها لفصل الموظفين واعتقالهم ومحاكمتهم، قائمة الذرائع هذه تدل على أن الحكومة التركية تنتهك الدستور التركي والمواثيق الدولية الموقعة عليها، كما أنها تتدخل وبصورة سافرة في النظام القضائي وتتلاعب به، أما عن المعايير التي تستخدمها الحكومة للقبض على عشرات الآلاف من المواطنين الأتراك، فهي معايير غامضة ولا يوجد فهم واضح لها لدى الحكومة نفسها، ولكن استنادًا إلى أوراق التوقيف، وأوامر الاعتقال، ولوائح الاتهام والمحاكمات القضائية يمكن استخلاص الذرائع التالية:
أ- الاشتراك في جريدة زمان
كانت جريدة “زمان” الجريدة الأكثر توزيعًا في تركيا حيث كانت توزع مليون نسخة يوميًّا، كما كانت من طليعة الصحف اليومية التي اعترضت على سياسات الحكومة، ونشرت تقريرًا صحفيًّا متعلقًا بالفساد المتفشي داخل الحكومة التركية، الذي تورط فيه أردوغان وآخرون.
على خلفية ذلك قامت الحكومة التركية بمصادرة جريدة زمان اليومية في 4 مارس/أذار 2016، على الرغم من أن الدستور يحظر صراحة مصادرة الصحف وكل مؤسسات البث والنشر بجميع أشكالها وهكذا تحولت الجريدة بين عشية وضحاها من جريدة مستقلة تعارض سياسات الحكومة، إلى جريدة موالية تردد ما تمليه عليها الحكومة.
ولكن يبدو أن مصادرة الجريدة لم يكن كافيًا، حيث أغلقت الحكومة بعد محاولة الانقلاب الفاشل مؤسسة زمان الصحفية بمرسوم طوارئ رقم 668 في 27 يوليو/تموز 2016، وفي الحال صدرت مذكرات اعتقال بحق الكتاب والصحفيين والإداريين العاملين بالجريدة بتهمة أنهم “إرهابيون” ، والحقيقة أنه لا يوجد أي حكم قانوني يثبت تورط الجريدة في أي أعمال إرهابية، ولو وجد مثل هذا الحكم القضائي فمن المفترض ألا يطبق بصورة رجعية على من كانوا يعملون بالجريدة قبل صدور الحكم.
وهكذا لم تعد المبادئ الأساسية المنصوص عليها في الدستور أو القانون الجنائي التركي محل اعتبار، ففي كثير من الحالات تم القبض على مواطنين بتهمة الاشتراك في صحيفة “زمان”، بدعوى أن الجريدة هي جزء من حركة كولن “الإرهابية”، وكذلك يصبح زوج أو زوجة هذا المتهم وأولاده أيضا مشتبهًا بهم في قضايا “إرهاب”، مع الأخذ في الاعتبار أن الجريدة كانت توزع مليون ومئتي نسخة يوميًا، كل هؤلاء أصبحوا مشتبهًا بهم، وسيتضاعف الرقم بإضافة أزواج أو زوجات وأولاد المشترين للجريدة.
واليوم هناك آلاف من المواطنين والمواطنات الأتراك المعتقلين بتهمة قراءتهم جريدة كانت توزَّع في كل مكتبات بيع الجرائد والمجلات، وتباع من خلال الكروت الائتمانية لأن لها وضعًا قانونيًّا معتبرًا، وتعمل تحت مظلة القانون والدستور والقانون الدولي.
إن هذا التعسف في استخدام مراسيم الطوارئ لا يقتصر على جريدة زمان وقرائها، بل يطال أيضًا عديدًا من المنشورات الهامة مثل صحيفة “Bugün”اليومية، ومجلة “Aksiyon”الإخبارية الأسبوعية والدورية الشهرية “Sızıntı” كانت مدرجة أيضًا كدليل جنائي من قبل المدعين العامين الذين حققوا مع المشتركين من قراء تلك المجلات والصحف، إذ يتم تضمين سِجِلّ الاشتراك في لائحة الاتهام باعتباره دليلاً.
بـ- عملاء بنك آسيا
كان بنك آسيا قبل إغلاقه في 2015 أكبر البنوك الإسلامية في تركيا، ومن أكبر البنوك التركية الخاصة، كما كان للبنك 210 فروع، ويعمل به 5000 موظف وقرابة المليون ونصف عميلاً، بالإضافة إلى أن البنك كان من أشهر الممولين للفعاليات الرياضية، فلقد كان الراعي الرسمي لدوري كرة القدم التركي بين عامي 2008 – 2012، مع العلم بأن البنك تم افتتاحه في 24 أكتوبر/تشرين الأول 1996 بعدما حصل على كل التصاريح القانونية اللازمة، والبنك كغيره من البنوك التركية يخضع للمراقبة والإشراف من الأجهزة الحكومية المختصة.
ورغم أن البنك كان أحد أعلى ثلاثة بنوك سيولة نقدية في تركيا إلا أنه لم يسلم من استهداف أردوغان، لأن بعض المساهمين من المستثمرين بالبنك ذوو صلة بكولن. وقد بدأت حملة أردوغان على البنك أولاً بإشاعة إفلاسه، ولأن هذه الشائعة لم يكن لها أي أساس من الصحة لم تجد لها تأثيرًا سلبيًّا على البنك، لذا تم افتعال قضية قانونية لمصادرة البنك عن طريق الموالين للحكومة داخل المؤسسة القضائية، وقامت الحكومة بملاحقة المساهمين في البنك من المستثمرين وكذلك 700.000 مواطن خضعوا جميعهم للتحقيق لا لشيء إلا لأنهم من عملاء البنك.
وفي بعض مستندات المحكمة جاء ما يلي: “المدعى عليه وزوجه أو زوجته خضعوا للتحقيق فيما إذا كانوا من عملاء بنك آسيا أم لا، أو قاموا بأي معاملة بنكية من خلال بنك آسيا، وإن وجدت فقد تم الفحص الكامل لكل المعاملات البنكية من إيداع وسحب وتحويل وغيرها من المعاملات”، ويعتبر المتهم عضوًا في منظمة إرهابية إن كان له أي تعامل بنكي مع بنك آسيا، وتتم محاكمته ومعاملته طبقًا لذلك. ولقد أغضب هذا الوضع المشرعين الأتراك حتى من أعضاء الحزب الحاكم ذاته، فقد صرح نائب الحزب الحاكم في مدينة “مانيسا” التركية “سلجوك أوزداغ” عن عدم رضاه بمثل هذه الإجراءات.
وعند اعتقال الصحفيين البارزين “أحمد ألتان” و”محمد ألتان” ورد في جريدة “صباح” المملوكة لعائلة أردوغان تصريح لمفتش الشرطة قال فيه: “لقد وجدنا في منزل “محمد ألتان” بطاقة ائتمانية لبنك آسيا”، وفي الوقت ذاته قامت كل وسائل الإعلام الموالية للحكومة بالضغط على القضاة من خلال التبرير بأن علاقة أي فرد بالبنك تكفي دليلاً على اعتقاله.
كما أنه وطبقا للقواعد البنكية التركية فإن كل من أودع مبلغًا أقل من 100.000 ليرة تركية تضمن له الدولة أمواله حالة ما أفلس البنك، حيث يقوم صندوق تأمين الودائع الادخارية (TMSF)برد قيمة المودعات البنكية للعملاء إذا لم تتعد 100.000 ليرة. وقد صرح صندوق تأمين الودائع الادخارية أنه سيقوم برد قيمة ودائع عملاء بنك آسيا إذا ما أعلن البنك إفلاسه، ومن ثم فإن التعامل المالي بالإيداع والسحب وغيرها مع بنك آسيا لم يكن جريمة من الناحية القانونية، لكن الواقع أن قرابة المليون ونصف عميل لبنك آسيا باتوا في أعين الحكومة مشتبهًا بهم، ويُنظر إليهم على أنهم مجرمون إرهابيون محتملون.
ووسط عدم الشفافية الموجودة بتركيا حاليًا لا يمكن الجزم بخصوص عدد الأشخاص الذين تم اعتقالهم بدعوى الإرهاب لإجرائهم معاملات بنكية ببنك “آسيا”، لكن المؤكد أنهم آلاف من المواطنين.
جـ- العضوية في الاتحادات العمالية
من المعلوم أن الاتحادات العمالية تدخل ضمن مؤسسات المجتمع المدني، هذه الاتحادات أسسها أفراد مقربون من حركة كولن، وفقًا للقواعد القانونية والإجراءات الإدارية اللازمة قانونًا وقت إنشائها. لقد تأسس أول اتحاد من هذه الاتحادات باسم اتحاد (Aksiyon-İş)، وكان يركز على قطاع التعليم، ثم توسع في إنشاء اتحادات للقطاعات المختلفة، لتتحول إلى كونفدرالية اتحادات تشمل العاملين في القطاعات المختلفة. هذه الاتحادات كان يُنظر إليها من قبل الاتحادات التابعة للموالين لأردوغان على أنها منافس يجب إزاحته، وهذا ما مثّل نزاعًا بين حركة كولن وأردوغان.
ومع تحقيقات الفساد الشهيرة 17/25 ديسمبر/كانون الأول 2013 باتت حركة الخدمة ترزح تحت ضغط شديد، كما استخدم الانقلاب الفاشل ذريعة فرضت على أثره حالة الطوارئ بالجمهورية التركية؛ ففي مرسوم طوارئ رقم 667 أغلقت حكومة أردوغان 19 اتحادًا عماليًّا فيدراليًّا وكونفيدراليًا، بالإضافة لإغلاق 35 معهدًا طبيًّا، و1.043 معهدًا تعليميًّا خاصًّا، و1.229 منظمة ومؤسسة، و15 جامعة. وتعرض المنضمون لهذه الاتحادات العمالية من حركة الخدمة لعمليات فصل واسعة من أعمالهم.
وبهذا تحولت كل الاتحادات التابعة للحركة إلى مؤسسات إرهابية وأصبح الأعضاء بها إرهابيين، وصارت العضوية في أحد هذه الاتحادات دليل إدانة.
لقد أظهر عديد من القانونيين والصحفيين اعتراضهم على هذه الإجراءات، وصدرت أصوات معارضة لتلك الإجراءات من داخل الحزب الحاكم نفسه، فالصحفي” أحمد تاش كتيران” وهو صاحب عمود في جريدة “ستار” الموالية للحكومة كتب: “إذا اعتبرنا 17/25 ديسمبر هي حجر الأساس في الخلاف مع حركة كولن، وأطلقنا على كل العاملين والمنضمين للمؤسسات الموالية للحركة وصف “إرهابي” بالرغم من أن هذه المؤسسات كانت تعمل تحت القانون ووضعها القانوني لا شائبة فيه، إذن فالحكومة متناقضة في أفعالها. فعلى سبيل المثال ظلت أعمال بنك آسيا وأوضاعه القانونية مستمرة بعد أحداث 17/25 ديسمبر/كانون الأول، وكذلك ظل اتحاد رجال الأعمال (TUSKON)يمارس نشاطه أيضًا وكذلك الاتحاد التعليمي (Aktif Eğitim-Sen)، بل الحكومة ذاتها دفعت اشتراكات مالية بالنيابة عمن يريد الانضمام لهذه الاتحادات. فأخبروني هل من المنطقي اعتبار علاقة مع منظمة أو مؤسسة قانونية -بدليل تعامل الدولة بمؤسساتها معها- دليلا على الإرهاب؟”.
وفي هذا الصدد نذكر مثالاً للاتحادات الكونفيدرالية وهو اتحاد (Cihan-Sen)وقد أسسه 22.104 موظفًا عاما في يوليو/تموز 2016 طبقا للبيانات الحكومية وكان 18.045 عضوًا من أعضائه تحت مظلة اتحاد (Aktif-Sen)، وقد أصبح كل هؤلاء الأعضاء يواجهون خطر محاكمتهم على خلفية أنهم “إرهابيون”، كما أن هناك الآلاف من المدرسين المحتجزين بالسجون لمجرد انضمامهم لهذه الاتحادات.
د- العضوية في مؤسسة توسكون (TUSKON)
الاتحاد التركي لرجال الأعمال والصناعيين الأتراك، ويعرف مختصرًا باسم (TUSKON)هو مؤسسة أم تضم تحت مظلتها 211 جمعية رجال أعمال في تركيا، بالإضافة لـ 150 جمعية رجال أعمال حول العالم. كانت هذه المؤسسة تنظم فاعليات استثمارية وتجارية تحت رعاية الحكومة التركية، إلى أن تم إغلاقها بمرسوم الطوارئ رقم 667 في 23 يوليو/تموز 2016 بتهمة “الإرهاب”. وهكذا أغلقت الحكومة التركية 1000 شركة في 2017 فقط، وصادرت رؤوس أموال شركات تُقدر بـ 11 مليار دولار. كما جمدت أصول وممتلكات كل أعضاء مؤسسة (TUSKON).
والاتهام الرئيسي الموجه ضد (TUSKON)هو أن رئيسها في الاجتماع العادي الخامس “رضا نور ميرال” ألقى خطابًا جريئًا قال فيه: “على السياسيين المستهدفين للتربح من مناصبهم التخلي عن السياسة والتوجه للعمل التجاري”، وقد فُهم من ذلك أنه يقصد تحقيقات الفساد 17/25 ديسمبر/كانون الأول 2013. وقد أخذ أردوغان هذا الكلام على محمل الجد وطالب الأعضاء بترك مؤس (TOSKON)، وعندما فشل في القضاء على المؤسسة، دبر تهمة قانونية لإغلاقها، واعتقال العاملين بها من خلال مرسوم طوارئ، وحُددت أسماء الأعضاء الذين حضروا خطاب “رضا نور ميرال” على وجه التحديد وتم اعتقالهم.
وهكذا أصبحت منظمة (TOSKON)منظمة “إرهابية”، رغم أنها كانت منذ ثلاث سنوات تضم 40.000 عضوًا من أنشط رجال الأعمال في تركيا. كما كان أردوغان وبعض الوزراء لا سيما وزير الاقتصاد يحضرون اجتماعات الجمعية العامة.
هـ- التطوع للعمل في مؤسسة كيمسه يوكمو الخيرية
(Kimse Yok Mu)وتعني “هل من مغيث؟” منظمة خيرية تأسست عام 2004 في إسطنبول، وتطورت حتى أصبحت منظمة دولية، وفيما بعد أصبحت شريكة لمفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين(UNHCR)، كما أنها كانت المنظمة الإغاثية الوحيدة في تركيا التي يعتبرها المجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة (ECOSOC)هيئة استشارية. نشطت المنظمة بأعمالها الإغاثية في أكثر من 113 دولة حول العالم. وقد طورت المنظمة نشاطاتها لتكون جاهزة لتقديم المساعدات الطارئة بعد الزلازل والفيضانات والكوارث الطبيعية، وإعادة الإعمار للمستشفيات والمدارس والمنازل، وتقديم العلاج المجاني والعمليات الجراحية المجانية.
ولكن لأنها تابعة لحركة كولن أصبحت تتعرض للهجوم من قبل أردوغان واعتبرها عدوة له، فألغى رخصة عملها وتم تعليق المساعدات الدولية التي تقوم بتقديمها في 22 سبتمبر/أيلول 2014، وبعد محاولة الانقلاب الفاشل في 15 يوليو/تموز 2016 تم إغلاقها كليًّا. وتم القبض على المتطوعين والعاملين في المنظمة بتهم أدق ما توصف به أنها تهم اعتباطية ليس عليها أي دليل، وما يدعو للسخرية أن أردوغان نفسه كان يدعو المواطنين ورجال الأعمال إلى تمويل عمليات الإغاثة التي تقوم بها المنظمة. كما تم القبض على محافظ إسطنبول “حسين عوني موتلو” لأنه تبرع بـ 6 دولارات لمنظمة (Kimse Yok Mu)هل من مغيث؟.
و- الأطباء والعاملون في القطاع الطبي
نشط عمل حركة الخدمة في مجالات مختلفة، وكان هناك اهتمام كبير بالعمل المدني في القطاع الطبي، حيث أنشأت الخدمة ما يقرب من 200 مؤسسة طبية غير حكومية أغلقتها الحكومة خلال عام 2017. وتم وصف آلاف من الأطباء والعاملين في المنشآت الطبية التابعة للخدمة بأنهم “إرهابيون” ، حتى إن التطوع لإجراء العمليات والفحوصات في دول أفريقية كان يعتبر دليل إدانة للأطباء، كما اعتقل الدكتور”أكرم يتر” زوج ابنة “بولنت أرينتش” المتحدث السابق باسم البرلمان التركي ونائب رئيس الوزراء، لأنه عمل في الاتحاد الفيدرالي للصحة العالمية.
والاتحاد الفيدرالي للصحة العالمية كان يعمل تحت مظلة كونفيدرالية “وفاء الصحية” المشهورة بـ(VESKON)والتي كانت تضم خمسة فيدراليات طبية، و118 مؤسسة طبية في تركيا، وعدد أعضائها قرابة 20.000 عضوًا. وقد قررت (VESKON)بأن تحل نفسها في 5 يناير 2016، بعدما تعرضت لهجمات وحملات من قبل الحكومة تستهدف إفلاس المؤسسة والعاملين بها، واعتقل عدد من الأطباء الذين عملوا بالمؤسسة.
كما أغلقت الحكومة التركية 50 مستشفى كبيرًا مما تسبب في تحويل 20.000 طبيب إلى عاطلين عن العمل. كما أغلق 14 مستشفى أخرى، و36 مركزًا طبيًّا للاشتباه في علاقتهم بحركة كولن، وكان يعمل بتلك المنشآت الطبية ما يزيد عن 7.200 فرد منهم أطباء وباحثون وأكاديميون وموظفون إداريون وعمال، بالإضافة إلى 1.684 طبيبًا و7.505 عمال بالمجال الطبي تمت تصفيتهم من المنشآت الطبية الحكومية بصورة جماعية من خلال مرسوم طوارئ، كما أغلقت الحكومة مركزًا طبيًّا للخصوبة بإسطنبول يدار بواسطة أطباء أتراك وأرمن.
وقد صرح “رشيد توكال” رئيس اتحاد الأطباء الأتراك (TTB)أنه تم فصل العديد من ذوي الخبرة والمهارة الطبية من المتخصصين في المجال الطبي وهو ما يعد خسارة فادحة.
ز- جمعيات المحامين
كل المحامين وجمعيات المحامين التي يشتبه في قربها من حركة كولن يتم إبعادها وعدم التعامل مع محاميها، كما يُستهدف المحامون باتهامهم جزافًا بتهم جنائية، ويحرم عشرات الآلاف منهم من حقوقهم الأساسية في الوصول إلى مستشار قانوني، ومراعاة الأصول القانونية والمحاكمات العادلة.
لقد اعتقلت السلطات التركية 523 محاميًا منهم رؤساء لجمعيات المحامين ونقاباتهم، كما يوجد 1.318 محاميًا يحاكمون أمام القضاء منذ 2016، وفي أكثر هذه الحالات تدخلت الحكومة في المحاكمات وعرقلتها حيث عملت على تأخير وصول المتهمين إلى مستندات وأوراق القضية، ولم تستمع لأقوالهم حول التهم الموجهة ضدهم، أو لم توفر لهم الوقت الكافي لإعداد الدفاع الخاص بهم، وهذا لا يعد انتهاكًا للقانون والدستور التركي فحسب، بل هو انتهاك للمواثيق والمعاهدات الدولية المتعلقة بالحقوق سواء الأوروبية أو التي أعدتها الأمم المتحدة. والجمهورية التركية ملتزمة بالإيفاء بما تضمنته تلك المعاهدات؛ لأنها من الدول الموقعة عليها.
كما استهدفت الحكومة التركية المحامين والحقوقيين العاملين في مجال حقوق الإنسان؛ فأغلقت 43 منظمة حقوقية خلال العام الماضي، وبعد إغلاقها صادرت الحكومة كل المنشآت التابعة لها.
وبعد عرقلة المحاكمات القضائية للمحامين حُكم عليهم بعقوبات مشددة، وأدينوا “بالإرهاب” أو بالمشاركة في “الانقلاب”. فعلى سبيل المثال لا الحصر بعد محاكمات استمرت 8 شهور كاملة تم الحكم على كل من “جمال الدين أوزر” الرئيس السابق لنقابة مدينة “أرزينجان” بالسجن لـ 8 سنوات و9 أشهر كما تم الحكم على “طالب نايير” أحد أعضاء جمعية حقوقية بـ 10 سنوات.
حـ- حيازة كتب فتح الله كولن
بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 يوليو/تموز 2016 أصبح امتلاك وحيازة كتب لفتح الله كولن أو أخرى مطبوعة في دور نشر تابعة لحركة كولن جريمة بمرسوم طوارئ رقم 668 بتاريخ 27 يوليو/تموز 2016، كما أُغلقت كل دور نشر الكتب التابعة لحركة كولن. وأصدر المدعي العام في “باكير كوي” قرارًا بمنع نشر أو تداول 672 كتابًا من دور نشر تابعة لحركة كولن سواء في صورتها الورقية أو الرقمية كما تقضي العريضة باعتبارها دليل إدانة لمن يتم القبض عليه متلبسًَا وهي معه أو في بيته، مع الأخذ في الاعتبار أن لكولن 64 كتابًا يباع منها في العام مليون نسخة، كما أنها ترجمت لعدة لغات غير اللغة التركية، وبهذا فإن هذا القرار الذي اتخذه المدعى العام يضع ملايين المواطنين الأتراك تحت الاشتباه.
ما يجدر الإشارة إليه أن قرار محكمة “باكير كوي” صدر قبل صدور مرسوم الطوارئ الذي يجرم امتلاك كتب ومجلات دور النشر التابعة لحركة كولن، هذه القرارات أجبرت ملايين المواطنين على حرق الكتب “الممنوعة” أو إلقائها في القمامة، بل إن الشرطة كانت تجمع الكتب من صناديق القمامة وتحقق مع من تجد بصماته على الكتب. وقد تداولت وسائل الإعلام التركية في 23 يوليو/تموز 2016 قضية قام فيها أحد أئمة المساجد بإلقاء كتب لكولن في سلة المهملات العامة وتم القبض عليه بمدينة “قاديرلي” التركية جنوب شرق البلاد. وهناك أطنان من التقارير الإخبارية المشابهة؛ على سبيل المثال “اعتقال محام أثناء إحراقه لكتب كولن”، “اعتقال مهندس مدني أثناء إحراقه لكتب كولن”، “اعتقال مدرس أثناء إلقائه كتب كولن بسلة المهملات".
أدخلت هذه التقارير المواطنين الأتراك في حالة من الاضطراب، وأصبحوا لا يعرفون كيف يتخلصون من الكتب والمجلات التي اشتروها الحديث منها والقديم، وبمرسوم طوارئ رقم 668 أصبحت هذه المصنفات الأدبية تتصف بأنها تحض على الإرهاب والعنف، بالرغم من عدم حظرها بواسطة القضاء والنظام الإداري. كما قامت الحكومة بإغلاق مكتبة (NT)لبيع الكتب التابعة لحركة الخدمة، التي كانت أكبر مكتبة لها فروع في جميع أنحاء تركيا، المثير للعجب أن كثيرًا من الكتب التي تتناول العلوم الطبيعية كالكيمياء والفيزياء وغيرها من الكتب الصادرة من دور النشر التابعة لحركة كولن صارت كتبًا محظورة، وتم إحراق مئات الآلاف من تلك الكتب.
ط- إلغاء اشتراكات ديجيتورك
كانت مجموعة (Digiturk)تابعة لمجموعة (جوكوروفا الإعلامية)، التي تعمل تحت مظلة صندوق التأمين على الودائع الادخارية (TMSF)لفترة طويلة، إلى أن تم بيعها إلى رجل أعمال قطري مقرب من أردوغان، ومن دون إجراء مزايدة علنية للبيع كما هو متبع وفي ظروف مريبة، كما سُلِّمت نوافذ إعلامية أخرى من مجموعة (جوكوروفا الإعلامية) لرجال أعمال منتسبين إلى حزب العدالة والتنمية، ونقلت ملكية صحيفتي“Akşam”و“Güneş”إلى (أدهم سانجاك) عضو المجلس التنفيذي للحزب الحاكم، الذي حول هذه المنافذ الإعلامية إلى شريك في الانتهاكات التي يقوم بها أردوغان عن طريق التسويق لها وتأييدها. وهكذا أصبحت مجموعة (Digiturk)أحد العوامل المساهمة في إسكات الإعلام الحر والمعارض لأردوغان.
من ناحية أخرى تم رصد شبكات التلفزيون التابعة والمتعاطفة مع حركة كولن، كما رُصدت محطات التليفزيون الناطقة بالكردية كأهداف، وأمر أردوغان شركة (Türksat)التي تسيطر على قطاع البث الفضائي بعدم تقديم خدمة البث التليفزيوني للمحطات المعارضة، وطلب أردوغان من منصة البث الخاصة بـDigiTurkاستبعاد المحطات المعارضة من قائمة القنوات الخاصة بها. وتم تنفيذ طلب أردوغان رغم أن هذه الإجراءات لا تتناسب مع حرية الصحافة وحرية التعبير وقواعد القانون التجاري. وكان رد الفعل هو اعتراض المعارضة المدنية والسياسية على هذا التعسف، وقامت المؤسسات الصحفية بإصدار بيانات تؤكد فيها على عدم قانونية إجراءات الحكومة، وانطلقت حملة لمقاطعة مجموعة قنوات (digiturk)وقد أيد ذلك عديد من الأشخاص حتى من معارضي حركة كولن. وقد دعم هذه المقاطعة كلٌّ من “كمال كيليدشدار أوغلو” و”دينيز بايكال” زعماء حزب الشعب الجمهوري المعارض، ورغم أن حزب الحركة القومية (MHP)كان من غير المؤيدين لهذه المبادرة من الناحية المؤسساتية، إلا أن بعض نواب حزب الحركة القومية (MHP)انضم للمقاطعة، ولكن بعد أحداث الانقلاب الفاشل في 15 يوليو/تموز 2016 اعتبرت مثل هذه المقاطعة المدنية والديمقراطية والقانونية المحضة دليلاً لاتهام حركة كولن بأنها “منظمة إرهابية”.
واعتبرت المعلومات التي قدمتها شركة Digiturk بشأن وضع الاشتراكات كافية لوضع المشتركين قيد الاعتقال، وقد أدت هذه الممارسات التعسفية إلى مظالم هائلة في بعض لوائح الاتهام، حيث تم اعتبار إلغاء اشتراك (Digiturk) دليلاً على العضوية في “منظمة إرهابية”، وكذلك فإن إصدار بيانات علنية داعمة لمقاطعة مجموعة (Digiturk)كان يعد أيضًا دليل إدانة. ومن ثم فإنه من الصعب تخيل سيادة القانون في بلد يتم فيها اعتقال أشخاص عاديين لمجرد أنهم ألغوْ اشتراكاتهم في مجموعة قنوات تلفزيونية.
ي- حيازة دولار واحد
لقد أصبح امتلاك دولار واحد دليلاً على ارتباط الشخص بحركة كولن، فالحكومة تدعي أن أعضاء الحركة يستخدمون كودًا سريًّا موجودًا في الأرقام التسلسلية المسجلة على الدولار. ليس من الواضح كيف توصلت الحكومة إلى نظرية المؤامرة هذه أو إلى أي أدلة تستند، وإن اعتقد الكثيرون أنه تم إعدادها من قبل نظام أردوغان لتقديم مؤامرة غامضة تبرر الحكومة من خلالها ما تقوم به من اضطهاد لأعضاء حركة كولن.
إن الأرقام المسلسلة على الدولار يحددها البنك الاحتياطي الفيدرالي (FRB)الصادرة منه العملة، ويقوم بطباعتها مكتب الطباعة التابع لوزارة الخزانة الأمريكية. لقد تم القبض على عديد من الأفراد لمجرد أنهم كانوا يحملون دولارًا في حقائبهم أو احتفظوا به في منازلهم، ومن الأمثلة الصارخة على هذا السخف هو اعتقال عالم الفيزياء “سيركان غولج” الذي يعمل بوكالة ناسا، وهو مواطن أمريكي من أصل تركي، يبلغ من العمر 36 عامًا اعتقل بعد الانقلاب الفاشل عندما كان في المطار منتظرًا طائرة عودته إلى ولاية “هيوستن” الأمريكية. فقد اتُهم بأنه عميل لـ(CIA)وكانت الأدلة عبارة عن الدولار الموجود معه.
وأصدرت اللجنة المهتمة بالباحثين المهددين في جميع أنحاء العالم (CCS)نداءً لإطلاق سراحه. كما تم اعتقال الطالب “ياووز سليم يايلا” البالغ من العمر تسعة عشر عامًا، بسبب وجود دولار معه في 22 يوليو/تموز 2016، حيث كان في طريقه لقضاء بعض الوقت مع والده الذي يعيش في الولايات المتحدة. وزعمت الحكومة في لوائح الاتهام المقدمة ضد المدعى عليهم من قبل النيابة العامة أن كبار الإداريين في الحركة يستخدمون الدولار فئة F، في حين أن المدراء يستخدمون فئة C، وأما باقي الأعضاء فيستخدمون الدولار فئة J رغم انتفاء أي دليل على صحة هذا الكلام، ورغم أن الحركة نفت أي مؤامرة من هذا القبيل أو أي اتصال سري.
-4 انتهاك مبدأ حق حرية الرأي والتعبير
تعمل الحكومة التركية أيضًا على المضي قدمًا في حملة لتجريم برامج التشفير المتاحة للجمهور بناءً على ادعاء مثير للجدل بأن تطبيق الهواتف الذكية الذي يُطلق عليه “ByLock”يستخدمه أعضاء حركة كولن كأداة اتصال سرية بينهم، ولذلك فالحكومة تعتبر تحميل هذا التطبيق من الإنترنت حجة كافية على أن هذا الشخص “إرهابي”، سواء كان صحفيًا يريد حماية مصادره أو أحد العاملين في المنظمات غير الحكومية الذي يحاول الحفاظ على أن تظل هوية الضحية مجهولة، ويقول المنتقدون لهذه الإجراءات إن استخدام التطبيقات التكنولوجية المختلفة ليس نشاطًا إجراميًا ولا يعد دليلاً على العضوية في منظمة إرهابية. كما أن الخبراء القضائيين يشيرون إلى أنه لا يمكن اتهام شخص ما باستخدام وسيلة اتصال معينة، كما يقولون لا يجوز إجراء مراقبة فنية على استخدامات المواطنين إلا بأمر من المحكمة، وينص قانون السوابق القضائية في المحاكم التركية على أن بيانات المراقبة الفنية التي يتم جمعها دون أمر من المحكمة لا تعتبر أدلة مقبولة. ورغم نص القانون فإن المحاكم تتعرض لضغوط من حكومة أردوغان، ولا تزال تُقاضي عشرات الآلاف من الأشخاص المشتبه بهم والتي وردت أسماؤهم في قائمة أعدتها وكالة الاستخبارات الوطنية التركية (MIT)بزعم أنهم قاموا بتحميل برنام (ByLock)، وقد أعدت تلك القائمة من قبل وكالة الاستخبارات الوطنية التركية على أساس انتقاد المواطنين للحكومة، وفي خطاب أرسلته المديرية العامة للأمن التركي في أكتوبر/تشرين الأول 2016 إلى جميع وحدات الشرطة في البلاد، طُلب فيه من ضباط الشرطة الحصول على اعترافات من المحتجزين حول سبب استخدامهم لـ(ByLock)، وذلك لأن مجرد استخدام التطبيق لا يعتبر جريمة.
ولا يزال آلاف المواطنين يقبعون داخل السجون لمجرد استخدامهم تطبيق (ByLock)فعلى سبيل المثال، قُبض على “أيدين صفا أكاي”، وهو قاض في المحاكم الجنائية الدولية التابعة للأمم المتحدة (MICT)بتهمة “الإرهاب والانقلاب” في 21 سبتمبر/أيلول 2016 استنادًا إلى جملة من الأدلة منها استخدامه لتطبيق (ByLock). وأثناء جلسة استماع المحكمة الجنائية العليا رقم 16 في “أنقرة” أكد “أكاي” أنه استخدم (ByLock)مع تطبيقات المراسلة الفورية الأخرى، وقال إنه استخدمه بناء على توصية صديق من بوركينا فاسو فقام بتنزيل التطبيق من متجر (Google Play)، وتدخلت الأمم المتحدة من خلال قرارها المؤرخ في 8 فبراير/شباط 2017، الذي أكدت فيه على أن “أكاي” يتمتع بامتيازات وحصانات تمنح للمبعوثين الدبلوماسيين، بموجب القانون الدولي عند المشاركة في أعمال الأمم المتحدة، حتى أثناء قيامهم بمهامهم في بلادهم، وأحيلت القضية إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، الذي طُلب منه إلزام تركيا بالامتثال لإطلاق سراح “أكاي”، وفي يونيو/حزيران 2017 أصدرت المحكمة الجنائية العليا رقم 16 بأنقرة حكمًا على “أكاي” بالسجن لمدة سبع سنوات وستة أشهر بتهمة العضوية في منظمة إرهابية، وفي حال ما أيدت محكمة الاستئناف العليا الحكم فسوف يُرسل إلى السجن رغم الحصانة الدبلوماسية التي يتمتع بها.
لقد أثار تجريم البرمجيات المشفرة غضب “ديفيد كاي” المقرر والمعني بتعزيز وحماية حق حرية الرأي والتعبير التابع للأمم المتحدة، ففي تقريره الصادر في يونيو/حزيران 2017 قال: إن “السلطات التركية ربطت بين تطبيق (ByLock)وحركة كولن مدعية أنه أداة اتصال سرية للحركة. والاعتقالات تحدث أحيانًا على أساس وجود تطبيق (ByLock)على كمبيوتر الشخص، وغالبًا ما تكون الأدلة المقدمة ضد المواطنين غامضة. وبحسب المعلومات المتوافرة، فلقد حصل جهاز الاستخبارات التركي على قائمة بمستخدمي (ByLock)العالميين، وتم استخدام هذه القائمة لتتبع واحتجاز الأشخاص. ويذكر أن عشرات الآلاف من الموظفين العموميين قد تم فصلهم وإلقاء القبض عليهم بسبب استخدامهم للتطبيق”.
أما عن المجلس الأعلى للقضاء (HSK)فقراراته تسيطر عليها الحكومة بصورة كاملة، فلقد قام المجلس الأعلى للقضاء بالتقليل من شأن رئيس محكمة العدل الإقليمية في أنطاليا “زينول دمير”، وتم نقله لمحكمة “دنيزلي” بعد أن رفض قبول استخدام تطبيق (ByLock)كدليل على جريمة “الإرهاب”، ويبدو أن الضغوط التي يقع تحت تأثيرها القضاة شديدة للغاية، لدرجة أن جعلت “دمير” يصدر مؤخرًا حكما بسجن “هاجر أيدين” إحدى المنتميات لحركة كولن لمدة ست سنوات وثلاثة أشهر لاستخدامها تطبي (ByLock)، وفي حكمه أعرب “دمير” أن استخدام تطبيق (ByLock)وحده لا يمكن أن يكون دليلاً كافيًا على جريمة.
-5 انتهاك مبدأ فردية المسؤولية الجنائية
لقد تجلت واحدة من أكثر الممارسات غير القانونية إثارةً في تركيا، من خلال انتهاك مبدأ المسؤولية الجنائية الفردية. وهناك عديد من الأمثلة التي يمكن الاستشهاد بها وأوردتها عديد من التقارير الدولية، من تلك الأمثلة الحالة المشهورة للصحفي “بولنت كوروجو”؛ فعندما لم تتمكن الشرطة من العثور عليه في محل إقامته، ألقت القبض على زوجته “هاجر كوروجو”، وهي ربة منزل وأم لخمسة أطفال، وأبقتها الشرطة قيد الاعتقال لمدة ثمانية أشهر كاملة بلا لائحة اتهام موجهة ضدها، فكون زوجها مطلوب القبض عليه كان سببًا قانونيًا كافيًا من وجهة نظر السلطات لتقوم باعتقالها ومقاضاتها.
الحالة الثانية التي يمكن عرضها في هذا السياق أيضا هو “سرمد شوكور” والد لاعب كرة القدم التركي الشهير “هاكان شوكور”؛ فعندما لم تستطع الشرطة العثور على ابنه اعتقلته نيابة عنه. ما تجدر ملاحظته في هذه الحالة أن “هاكان شوكور” كان برلمانيًا سابقًا انفصل عن حزب أردوغان، احتجاجًا على الفساد المستشري داخل الحكومة وأصبح أحد أبرز منتقديه.
وقد ورد ذكر هذين المثالين في تقرير حقوق الإنسان لعام 2016 الصادر عن وزارة الخارجية الأمريكية. وكذلك قبضت الشرطة على “لَوَنت كنش” بدلا عن شقيقه الصحفي “بولنت كنش” رئيس التحرير السابق لـ“Today’s Zaman”، كما تم القبض على “مصطفى تورك” والد الكاتب “جمال تورك” وهو مزارع بلغ 81 عاما من العمر بدلا عن ابنه.
وهناك شكل آخر من أشكال العقاب يُستخدم على نطاق واسع في تركيا ما بعد الانقلاب الفاشل، وهو إلغاء جوازات السفر؛ فلقد حُرم عديد من المواطنين الأتراك من حقهم في حرية التنقل، فعلى سبيل المثال، ما حدث لـ”ديلك دوندار” زوجة الصحفي “جان دوندار” التي مُنعت من السفر إلى الخارج؛ لأن زوجها الصحفي المطلوب من السلطات هارب. كما لقي نفس المصير “ابن أركان غول” “وابنة شاهين ألباي”، وكذلك “إسرا كارايغيان” ابنة “إبراهيم كارايغيان” البالغة من العمر 21 عامًا، التي كانت تعمل بإدارة تحرير صحيفة “زمان”، حيث قبض عليها ووضعت في السجن في 18 أغسطس/آب 2017، بتهمة أن والدها فتح حسابًا ببنك آسيا لتغطية نفقات دراستها ومصروفاتها.
-6 انتهاك مبدأ الحق في العمل
لقد أدى التعسف وغياب سيادة القانون في تركيا إلى الحرمان من الحق في العمل والضمان الاجتماعي، فالمدرسون الذين فصلوا بشكل غير قانوني من وظائفهم في أعقاب محاولة الانقلاب الفاشل، يذكر في سجل ضمانهم الاجتماعي أنهم فصلوا بسبب عضويتهم فيما تسميه الحكومة بـ “منظمة FETÖالإرهابية” في إشارة إلى حركة كولن. هذه الوصمة تؤثر على ماضيهم الوظيفي، وتمثل عائقًا لهم يمنعهم من العمل في المدارس الخاصة الأخرى والمؤسسات التعليمية الحكومية.
وفي رد من وزارة التعليم على التماس قدم إليها بنفس الخصوص، أكدت أن المدرسين المفصولين (نتيجة ارتباطهم بالإرهاب) لا يمكنهم العمل في المدارس الحكومية أو الخاصة أو في مراكز الدروس الخصوصية، وهكذا صارت الوصمة الرسمية للمدرسين المفصولين تجعل من المستحيل بالنسبة لهم الحصول على وظيفة، حتى خارج مجال دراستهم، وبغض النظر عما إذا ثبت أنهم مذنبون أم لا.
كما حرم هؤلاء المفصولون من حقهم في الطعن على قرارات فصلهم الصادرة بمرسوم طوارئ، حيث قضت محكمة الاستئناف العليا أن الموظفين الذين أُغلقت مؤسساتهم بموجب مراسيم الطوارئ، ليس لهم حق في التظلم أو رفع دعاوى تعويض أمام السلطات القضائية، أو في لجنة التحقيق التي أنشئت لسماع الشكاوى المتعلقة بمراسيم الطوارئ، أو المطالبة باستعادة مراكزهم الوظيفية، أو المطالبة بمكافأة نهاية الخدمة. وهذا الحكم يعد انتهاكًا لقانون الإفلاس التركي الذي يلزم الدولة بدفع رواتب الموظفين ومزاياهم بعد تصفية أصول الشركات والمنظمات التي تم إغلاقها أو إجبارها على الإفلاس.
وقد اعترض نائب حزب الحركة الوطنية (MHP)“محمد أردوغان” على هذه الانتهاكات فقال: “في حين أن المدارس التي أغلقت بمرسوم طوارئ لها الحق في التظلم أمام اللجنة السابق ذكرها، إلا أن الموظفين محرومون من حقهم في التظلم من قرارات الفصل الصادرة بمرسوم طوارئ”.
لم يتم فصل المعلمين من وظائفهم فحسب، بل اعتبرت رخصتهم لممارسة التعليم باطلة؛ فبقرار حكومي واحد أصبحت كل سنوات الدراسة والعمل التي قضاها هؤلاء الموظفون كأن لم تكن وبلا جدوى، ومن خلال مرسوم تم تنفيذه بأثر رجعي.
والنتيجة أن هؤلاء المدرسين الآن ليس لديهم خيار آخر سوى العمل في الأعمال التي لا تتطلب شهادة جامعية وبدون فوائد الضمان الاجتماعي، وأن ينفصلوا تمامًا عن مجال خبرتهم. ففي بعض الحالات التي أنشأ فيها المعلمون المفصولون مراكز خاصة بهم لتقديم دروس للطلاب، داهمت الشرطة المراكز التعليمية وألقت القبض على المعلمين. وفي انتهاك آخر ترفض الحكومة الامتثال لقانون تداول المعلومات، والذي ينص على تقديم معلومات للموظفين العموميين عند فصلهم عن سبب الفصل.
وربما كان أعظم تعدٍّ على الحقوق وانتهاكها من جانب الحكومة التركية، هو إلقاؤها القبض على الموظفين العموميين، أثناء زيارتهم للجنة الحكومية التي أنشئت ﰲ ٢٣ ﻳﻨﺎﻳﺮ/كانون الثاني ٢٠١٧ للنظر ﰲ قضايا المتضررين من مراسيم الطوارئ.
وهو ما جعل منظمة العفو الدولية تصف عمليات الفصل الجماعي لعمال القطاع العام في تركيا، بأنها “إبادة مهنية” ذات تأثير كارثي على حياتهم وسبل معيشتهم. وقد تم تنفيذ عمليات الفصل الجماعي بشكل تعسفي وعلى أساس غامض وعام بدعوى” وجود علاقة مع المنظمات الإرهابية”. كما لم يتم إطلاع موظفي القطاع العام الذين تم فصلهم على أسباب الفصل، ولم تكن لدى الموظفين وسائل فعالة للتصدي للقرارات.
وهو ما أكدت عليه مفوضية فينسيا في قولها: “الموظفون العموميون المعنيون يجب أن يكونوا قادرين على معرفة الأدلة المقدمة ضدهم، وأن يُسمح لهم بالتعليق على تلك الأدلة قبل اتخاذ أي قرار بفصلهم من العمل”. لكن ما حدث هو أن الموظفين اكتشفوا قرار فصلهم عندما وجدوا أسماءهم في القوائم الملحقة بمراسيم الطوارئ، القاضية بالفصل لمن وردت أسماؤهم بالقوائم، دون أن يعرفوا على أي أساس تم فصلهم من العمل، وما الأدلة التي استخدمت ضدهم، كما منعوا من الاطلاع على ملفاتهم باعتبارها ملفات سرية لا يمكن الاطلاع عليها، وهو ما يمثل انتهاكًا واضحًا لمواد الدستور التركي التي تنظم حرية العمل والتعاقد؛ فالمادة 48 من الدستور تنص على أنه “يحق لكل فرد حرية العمل وإبرام العقود في المجال الذي يختاره”، والمادة 60 من الدستور تنص على أن “لكل شخص الحق في الضمان الاجتماعي، ويجب على الدولة اتخاذ التدابير اللازمة وإنشاء الهيئات لتوفير الضمان الاجتماعي لجميع المواطنين”. أما الواقع اليوم فإن آلاف المواطنين محرومون من حقوقهم التي يكفلها لهم الدستور ولا قدرة لهم على المطالبة بحقوقهم. وهكذا فبدلاً من أن تتحمل حكومة أردوغان مسؤوليتها في ضمان احترام هذه الحقوق، تقوم بانتهاك الدستور التركي، وحرمان المواطنين من حقوقهم وعرقلة حصولهم على الوظيفة التي يختارونها.
لقد أدت إجراءات الحكومة التركية بفصل الموظفين العموميين، إلى فقدانهم لمدفوعات نهاية الخدمة وللتعويضات، وفي بعض الحالات لمعاشات التقاعد، بينما الأصل في نظام التقاعد التركي هو حماية الذين عملوا لفترة معينة من الوقت ثم تركوا العمل كي يتمكنوا من العيش بعد العمل.
في الواقع، لم يُنتهك الدستور التركي فحسب، بل انتهكت الحكومة التركية عددًا من الاتفاقيات التي وقعت عليها ملتزمة بالامتثال لها؛ فعلى سبيل المثال، انتهاك الميثاق الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (ICCPR)، بالإضافة إلى الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان التي تنص على الحق في عدم التمييز، وقد انتهكت الحكومة التركية هذه المعاهدة عندما فصلت الموظفين العموميين بأعداد كبيرة وبصورة جماعية لمجرد الاعتقاد بأنهم ينتمون إلى مجموعة اجتماعية مثل حركة كولن، كما رصدت المحكمة الأوروبية لحقوق الملكية الفكرية في تركيا انتهاك الحكومة التركية نص المادة 14 التي تحظر التمييز خلال عام 2016 بصورة مستمرة، وانتهكت كذلك الميثاق الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (ICESCR)الذي يضمن الحق في العمل، وأحكام منظمة العمل الدولية (ILO)، كما انتهكت تركيا الاتفاقية رقم 158 التي توجب الحماية من إنهاء العمل عن طريق الفصل التعسفي دون اتباع الإجراءات القانونية الواجبة، وقامت بفصل عشرات الآلاف من المواطنين دون أن ترهق الحكومة التركية مؤسساتها بالنظر في طلبات دفاع الموظفين عن أنفسهم فيما نسب إليهم من مزاعم “الإرهاب”؛ وبهذا فقد انتهكت المادة 7 من ميثاق منظمة العمل الدولية (ILO)رقم 158، التي تنص على أنه “لا يجوز إنهاء توظيف العامل لأسباب مرتبطة بسلوك أو أداء العامل قبل أن تتاح له فرصة للدفاع عن نفسه ضد الادعاءات المقدمة”.
الخلاصة:
لقد بات واضحًا أن الحكومة التركية تنتهك المعايير الدولية المتعلقة بسيادة القانون، ولا تبالي بالأصول القانونية التي تنص على الحق في محاكمات عادلة، والواردة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وفي الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، وفي الميثاق الدولي الخاص بالحقوق المدنية والحقوق السياسية، وغيرها من المعاهدات الدولية ذات الصلة بحقوق الإنسان، لاسيما التي صدقت عليها تركيا ومن المفترض أن تلتزم الحكومة التركية بتلك المواثيق.
ومن الواضح أيضا أن الانتهاكات التي تقوم بها الحكومة ممنهجة ومتعمدة، وتستهدف اضطهاد مجموعة اجتماعية وهي حركة كولن وكافة ألوان المعارضة، وأن الأمر ليس مجرد قرارات استثنائية صادرة في ظل حالة الطوارئ.
إن حكومة أردوغان تدمر حياة الملايين من المواطنين بسبب انتمائهم الحقيقي أو المزعوم لحركة كولن، فقد سجنت أكثر من 80.000 مواطن من بينهم 700 طفل مع أمهاتهم في العام الماضي وحد. كما تم فصل ما يقرب من 170.000 موظف حكومي من وظائفهم دون أي مراجعة قضائية أو إدارية، وتم وصمهم بـ “الإرهابيين” مدى الحياة من خلال مراسيم الطوارئ. كما ازدادت حوادث التعذيب والمعاملة اللاإنسانية في المعتقلات والسجون، حيث مات 100 شخص في ظروف مثيرة للشبهة، وفي بعضها أعلنت السلطات أنها حالات انتحار دون أي تحقيقات فعالة حول السبب الحقيقي للوفاة. كما ازدادت حالات الاختطاف والاختفاء القسري الذي تقوم به وكالة الاستخبارات التركية وقد بلغت 20 حالة اختطاف حتى وقت قريب.
وأصبح الاشتراك في صحيفة “زمان” اليومية، ومجلة “Sızıntı”وما شابه، ووجود حساب في بنك “آسيا” أو إجراء معاملة من خلال بنك “آسيا”، وحيازة كتب كتبها “فتح الله كولن” أو مجلات له مقالات فيها أو نشرها من قبل شركات قريبة من حركة كولن، أو العضوية في الجمعيات أو النقابات المرتبطة بالحركة وحتى إلغاء اشتراك “ديجيتورك”، يستشهد به كدليل جنائي في جميع لوائح الاتهام. وفي ضوء ذلك تم وضع عشرات الآلاف من المشاركين والمتطوعين في حركة كولن تحت التحقيق الجنائي التعسفي ومعاقبتهم.
وبالتالي، فإن المبادئ الأساسية للقانون مثل “لا جريمة بدون قانون”، و”المسؤولية الجنائية فردية”، و”حظر تطبيق القوانين الجنائية بأثر رجعي”، و”الحماية المتساوية بموجب القانون”، تم انتهاكها من قبل الحكومة صراحة وعن قصد، وعلى نطاق واسع وبصورة ممنهجة. بالإضافة إلى ذلك، فإن قرارات الحظر التعسفي وغير القانوني المتعلقة بالصحف ومحطات التلفزيون والمجلات والكتب، وتدمير المواد المنشورة هي أمثلة نموذجية على انتهاك حريات الفكر والتعبير، وكذلك حرمان الأفراد من الحق في العمل، وحق الاستفادة من الضمان الاجتماعي يعد انتهاكًا للدستور التركي وكذلك للاتفاقيات الدولية.
لقد أصبح الجميع يشارك قلق المفوض السامي لحقوق الإنسان “زيد رعد زيد الحسين”، الذي أعرب عن خيبة أمله من منع الحكومة التركية إجراء تحقيقات في انتهاكات حقوق الإنسان بتركيا، وأعرب عن قلقه العميق إزاء الاعتقال الجماعي وإقالة الموظفين العموميين والتجديد المستمر لحالة الطوارئ بتركيا، قائلا إن “مناخ الخوف”هو من يحكم تركيا الآن، وطالب الرئيس التركي أردوغان وحكومته بالتوقف عن انتهاك الاتفاقيات الدولية التي وقعت عليها تركيا وأن تمتثل لها بصورة كاملة.
لقد بات الجميع يدعو الحكومة التركية إلى استعادة حكم القانون، والكف عن التعذيب والمعاملة اللاإنسانية للمواطنين في المعتقلات والسجون، وإتاحة فرصة تواصل المحتجزين مع محاميهم، والتحقيق بشكل شامل وفعال في حالات إساءة استخدام السلطة من قبل الحكومة، وإطلاق سراح جميع السجناء السياسيين وخاصة الصحفيين، وكذلك إسقاط جميع التهم الموجهة للمسجونين، وإعادة الأصول المالية التي استولت عليها الحكومة من غير حكم قضائي باتّ إلى أصحابها الشرعيين، وتعويضهم عما لحقهم من ضرر مادي ومعنوي، وكذلك ضمان محاسبة المسؤولين الحكوميين الذين أساءوا استخدام مناصبهم السياسية.
اقرأ المزيد
انتقد الشيخ سليمان الرحيلي، أستاذ الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية، وأستاذ كرسي الفتوى فيها والمدرس بالمسجد النبوي
كشف اللواء محمود الرشيدي، مساعد وزير الداخلية الأسبق لتكنولوجيا المعلومات في القاهرة، حقيقة الفيديوهات التي تنشرها قناة الجزيرة
في مشهد يكشف النوايا الخبيثة من جديد، ويفضح المتاجرة بالدين، واستغلال المقدسات الإسلامية، والتي أصبحت صفة ملاصقة لـ"الأتراك"
صباح السبت الماضي، تعرض حقل شيبة النفطي شرق السعودية لهجوم إرهابي عبر طائرة درون مسيرة
سد بيان النيابة العامة الإماراتية حول وفاة المعتقلة علياء عبد النور، بسرطان الثدي صبيحة السبت، الطريق أمام متاجرة تنظيم الإخوان الإرهابي
أشاد سماحة مفتي عام المملكة رئيس هيئة كبار العلماء الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ، على الجهود التي تقدمها وزارة الشؤون الإسلامية