الحد الفاصل بين الجهاد والفوضى
بقلم – الدكتور حمد بن إبراهيم العثمان
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فإن المسلم ليحزن إذا رأى قيادات غير حكيمة تسوق المسلمين إلى ما فيه ضررهم وتلفهم، وأمر الجهاد ليس بالأمر اليسير حتى يناور فيه الإنسان على سبيل تخمين ردة فعل العدو، لأن الجهاد فيه تعريض النفوس والأموال للتلف، وتمكين العدو من أراضي المسلمين وانتهاك حرماتهم ومقدساتهم ولذلك جعل الله أمر الجهاد وما يتعلق بأمن المسلمين ومصالحهم العامة لولي الأمر مع مشورة أهل الحكمة والخبرة والاختصاص، قال تعالى: (واذا جاءهم امر من الأمن أو الخوف اذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) (النساء: 83)، قال العلامة عبدالرحمن السعدي رحمه الله: "هذا تأديب من الله لعباده عن فعلهم هذا غير اللائق، وأنه ينبغي لهم إذا جاءهم أمر من الأمور المهمة، والمصالح العامة ما يتعلق بالأمن، وسرور المؤمنين أو بالخوف الذي فيه مصيبة عليهم، أن يتثبتوا ولا يستعجلوا باشاعة ذلك الخبر، بل يردونه إلى الرسول، وإلى أولي الأمر منهم، أهل الرأي والعلم والنصح والعقل والرزانة، الذين يعرفون الامور ويعرفون المصالح وضدها"، تيسير الكريم الرحمن صـ 190
فلهذا ليس من الرأي السديد ولا من الجهاد في شيء أن نأسر رجلاً واحدًا من العدو ونقتل مثله ونحن ضعفاء، فيقوم العدو باحتلال مزيد من الأراضي ويقتل أضعافًا كثيرة من المسلمين، ويبث الخوف والرعب ويشفي غله بأضعاف ما حصل له، ويحاصر المسلمين في مكان محدود ويقطع عنهم الماء والكهرباء، ونحن عاجزون عن دفع الضر عن أنفسنا، فضلا عن الحاق الأذى بالعدو، لذلك قال شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله: "الواجب أن يعتبر في أمور الجهاد برأي أهل الدين الصحيح الذين لهم خبرة بما عليه أهل الدنيا، دون أهل الدنيا الذين يغلب عليهم النظر في ظاهر الدين"، طريق الوصول صـ 138
وكذلك من الظلم أن تقوم ميليشيا حزبية خارجة عن طاعة الحاكم بمبادرة العدو للقتال فتجلب للبلاد حربًا لم يخترها حاكمها ولا شعبها، فهذا من أسباب الفوضى وتضييع بلاد المسلمين، وبهذا تظهر حكمة الله في جعل سياسة الجهاد والحرب لولي الأمر، قال الحسن البصري رحمه الله: "أربع من أمر الإسلام إلى السلطان: الحكم، والفيء، والجهاد، والجمعة" مسائل الإمام أحمد رواية الكرماني صـ 392
وقال شيخنا العلامة محمد العثيمين رحمه الله: "لو جاز للناس أن يغزوا بدون إذن الإمام لأصبحت المسألة فوضى، كل من شاء ركب فرسه وغزا، ولأنه لو مكن الناس من ذلك لحصلت مفاسد عظيمة، فقد تتجهز طائفة من الناس على انهم يريدون العدو، وهم يريدون الخروج على الإمام، أو يريدون البغي على طائفة من الناس"، كما قال الله تعالى (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما) (الحجرات: 9)، فلهذه الأمور الثلاثة ولغيرها أيضًا لا يجوز الغزو إلا بإذن الإمام، الشرح الممتنع (26ـ25/8).
الجهاد تابع للمصلحة وشرطه القدرة
لا شك أن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في الجهاد واضحة، فتارة يقاتل مع القدرة، وتارة يهادن مع عدم القدرة، لذلك من القواعد الكبيرة في مسائل الجهاد هو أن الجهاد تابع للمصلحة، قال العلامة عبدالرحمن السعدي رحمه الله: "والجهاد باليد والسلاح يتبع المصلحة، فعلى المسلمين أن يسلكوا هديه ويتشاوروا في أمرهم، ويعملوا في كل وقت ما يناسبه ويصلح له"، فتح الرحيم صـ 131
وقد نص العلماء على أنه لا إثم في عدم الجهاد مع عدم الاستطاعة، قال تعالى: (فاتقوا الله ما استطعتم).. قال العلامة محمد بن علي الكرجي "فمن لم يطق الجهاد بالنفس والمال، وآمن به ورآه حقًا فهو من أهله، وليس عليه غيره"، نكت القرآن (187/4).
فتأمل قوله "ليس عليه غيره" فهذا والله دين الاسلام الذي يعرفه الخاص والعام كما قال تعالى (لا يكلف الله نفسا الا وسعها). وكذلك قال الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله: "ومن ترك الجهاد مع قدرته عليه ذل"، الحكم الجديرة بالإذاعة صـ 4
فتأمل القيد والشرط الذي يذكره كل العلماء "مع قدرته عليه" وكرر ذلك ابن رجب ايضا في هدي النبي صلى الله عليه وسلم زيادة في التوضيح والتوكيد فقال: "فمن ترك ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الجهاد مع قدرته عليه واشتغل عنه بتحصيل الدنيا من وجوهها المباحة حصل له الذل" الحكم الجديرة صـ 41 فتأمل قوله "من الجهاد مع قدرته عليه"، فهذا مما لا يختلف فيه المسلمون.
مقصود الجهاد إقامة الدين وحفظ النفوس لا إفنائها
مقصود الجهاد هو أن تكون كلمة الله هي العليا وأن يحفظ دين المسلمين وأن تحفظ أرواحهم فهذا الذي تبذل فيه المهج، أما أن نقتل عددًا محدودًا جدًا من العدو يوجب غضبهم وتشفيهم وظهورهم علينا وسفك دمائنا وإتلاف اموالنا ومقدراتنا فهذا انتحار، ولا تأتي به شريعة قط، قال العز بن عبدالسلام رحمه الله: "إن أي قتال للكفار لا تتحقق به نكاية للعدو فإنه يجب تركه، لأن المخاطرة بالنفوس إنما جازت لما فيها من مصلحة إعزاز الدين، والنكاية بالمشركين، فإذا لم يحصل ذلك وجب ترك القتال لما فيه من موات النفوس، وشفاء صدور الكفار وإرغام اهل الإسلام، وبذا مفسدة محضة وليس في طيها مصلحة"، قواعد الأحكام صـ 95
النجاة من العدو فتح
مع الضعف وعدم القدرة لا يعيب المسلم أن يتحرى السلامة من عدوه، فهذا خالد بن الوليد رضي الله عنه لما رأى ما نزل بجيش المسلمين من القتل في غزوة مؤتة رجع بالجيش طلبا لحفظ دماء المسلمين والسلامة من العدو، قال والدنا العلامة محمد العثيمين رحمه الله: "والتخلص من العدو يسمى نصرًا وفتحًا وغلبة"، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة مؤتة حين كانت الراية مع زيد بن حارثة ثم كانت مع جعفر بن ابي طالب، ثم كانت مع عبدالله بن رواحة، وكلهم قتلوا رضي الله عنهم، قال: "ثم أخذها خالد ففتح الله على يديه".
وخالد رضي الله عنه لم ينتصر على الروم ولم يغلبهم، ولكن نجا منهم، فسمى النبي صلى الله عليه وسلم هذه النجاة "فتحًا" تفسير سورة الصافات صـ 267 – 268.
الحل وكيف ننتصر على عدونا؟
لا بد مع ذكر أحوالنا، ونقدنا للتصرفات غير الحكيمة، أن نذكر الحل لأوضاعنا الحالية حتى لا نكون مجرد منظرين، فظهور العدو خصوصا أرذل الأعداء اليهود إنما هو بسبب ذنوبنا، والله ذكر شرط النصر في قوله تعالى: "إن تنصروا الله ينصركم"، وذكر الله أن معية النصر للمتقين والمحسنين، قال تعالى: "إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون"، وقال تعالى: "أليس الله بكاف عبده"، قال ابن القيم: "الكفاية على قدر العبودية"، فلذلك ينبغي علينا ان نحقق العبودية التي تجلب النصر، وهذه تكون مع صحة الاعتقاد، وملازمة السنة ومجانبة البدعة، وتحقيق الطاعة فإذا صدقت قلوبنا وارتفعت أيدينا بالدعاء كفانا الله أعداءنا، قال شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله: "القلوب الصادقة والأدعية الصالحة هي العسكر الذي لا يغلب".
وقال العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: "المشكلة الأولى: هي ضعف المسلمين في أقطار الدنيا في العدد والعُدد عن مقاومة الكفار، وقد هدى القرآن العظيم الى حل هذه المشكلة بأقوم الطرق واعدلها: فبين أن علاج الضعف عن مقاومة الكفار انما هو بصدق التوجه الى الله تعالى، وقوة الإيمان والتوكل عليه، لأن الله قوي عزيز، قاهر لكل شيء، فمن كان من حزبه على الحقيقة لا يمكن أن يغلبه الكفار، ولو بلغوا من القوة ما بلغوا.
فمن الأدلة المبينة لذلك أن الكفار "ضربوا على المسلمين ذلك الحصار العسكري العظيم في غزوة الأحزاب المذكورة في قوله تعالى: "إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا، هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدًا".. إلى أن قال "الإيمان والإخلاص كان من نتائج ذلك ما ذكره الله جل وعلا في قوله: "وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها، وكان الله على كل شيء قديرًا" فصرح جل وعلا في هذه الآية بأنهم لم يقدروا عليها، وأن الله جل وعلا أحاط بها فأقدرهم عليها، وذلك من نتائج قوة إيمانهم وشدة إخلاصهم.
فدلت الآية الكريمة على أن الإخلاص لله وقوة الإيمان به، هو السبب لقدرة الضعيف على القوي وغلبته له، "كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين"، وقوله في هذه الآية "لم تقدروا عليها" فعل في سياق النفي، والفعل في سياق النفي من صيغ العموم على التحقيق.
فقوله "لم تقدروا عليها" في معنى لا قدرة لكم عليها، وهذا يعم سلب جميع أنواع القدرة، لأن النكرة في سياق النفي تدل على عموم السلب وشموله لجميع الأفراد الداخلة تحت العنوان، كما هو معروف في محله.
وبهذا تعلم أن جميع انواع القدرة عليها مسلوب عنهم، ولكن الله جل وعلا أحاط بها فأقدرهم عليها، لما علم من الايمان والاخلاص في قلوبهم "وأن جندنا لهم الغالبون". أضواء البيان (412/3 – 414).
وفق الله الجميع لما يحب ويرضى، ورزق الله قادة المسلمين الحكمة والرأي السديد، وكفى الله المؤمنين شرور اليهود وأعوانهم.
والحمد لله رب العالمين.
اقرأ المزيد
احتفاء كبير لقنوات وإعلام تنظيم الإخوان الإرهابي مع أول ظهور لحركة عزم، بالتزامن مع تقارير إخبارية أعدتها قناة الفتنة "الجزيرة القطرية"
كشفت دراسة حديثة عن أسباب حرص الجماعات الإرهابية المتطرفة على استخدام العملات الافتراضية، أهمها إخفاء هوية مستخدمي هذه العملات.
عملت التنظيمات المتطرفة عبر العصور، على استغلال الإعلام وأدواته المتاحة في كل زمان، للترويج لأجنداتها داخل المجتمعات، فاستغل الإرهابيون
جلسَ الحمارُ حزيناً منكساً بالذلِّ ويكأنَّـه يعاتبُ نفسه عَلَى أمرٍ ما، وكانَ قريباً من أحد الأنهارِ، فاقْـتربَ من شاطئ النَّهْـرِ
فإنّ مَعرفةُ المرضِ العقديِّ وسبَبُه يُعينُ عَلى علاجِهِ؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - عند كلامه على وقوع الخلط بين معنى الاستغاثة والتوسل
تكلمت في مقالات سابقة عن أساليب هذه الجماعات المتطرفة والإرهابية في استخدام القوة الناعمة، والتي منها: القدرة السياسية والمعنوية والتقنية والاقتصادية