أهل السنة بين إدراك الظفر ووقوع الضرر
بقلم - الشيخ حمد بن عبدالعزيز العتيق
الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم! ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، والصلاة والسلام على من بعثه الله نوراً ورحمة للعالمين، فجاهد في الله حق جهاده، فأوذي في الله وحوصر، ثم أُخرج وطُورد، ثم قُوتل وجُرح، ثم سُمَّ وسُحر، وسُب وقُذف وهو في كل ذلك يتقلب بين الرضا والحمد والشكر لله رب العالمين، حتى أتاه اليقين، فأسلم روحه الطاهرة لربها الكريم، وارتاح من عناء الدنيا ونصبها، فصلى الله وسلم عليه كلما دعا للسنة داعٍ وصبر، وكلما جبن عن ذلك خوارٌ ونكل، ثم أما بعد:
لما كان من سنة الله التي أجراها في عباده بحكمته، وقدرته، أن يبتلي العباد بعضهم ببعض، ليُعلم الصابر من الساخط، والصادق من الكاذب، كما قال تعالى: وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون، وقال تعالى: الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبينلما كان ذلك من سنة الله في خلقه، بيّن سبحانه بعد ذلك لعباده المتقين، أن هذا البلاء قد يصحبه إدراك السراء والظفر وقد يكون معه وقوع البلاء والضرر، كما قال الله تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ثم بيّن سبحانه أن الواجب على المؤمن أن يفعل ما أمره ربه، وأن لا يسأل عن ما فعل الرب سبحانه، لأن الخلق خلقه والأمر أمره، ولا رب ولا إله غيره، وهو العليم الحكيم.
فالقضاء الكوني القدري لله تعالى يصرف الخلق كيف شاء، وليس للمؤمن أن يتلقى القضاء الكوني إلا بأداء الواجب الشرعي الذي سيسأله الله عنه، وقد جمع الله هذين المعنيين في آية واحدة، فقال: لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون.
فإن كان القضاء الكوني خيراً وأدرك المؤمن الظفر، وجب عليه شرعاً الحمد والشكر، وأما إن كان القضاء الكوني متضمناً لوقوع الضرر، وجب على المؤمن شرعاً الصبر.
ومن أراد أن يعلم ذلك علم اليقين فليتأمل سنة الله في أصفيائه من الأنبياء والمرسلين والشهداء والصالحين، وكيف أن الله نوّع عليهم صنوف القضاء القدري، فأحياناً يقضي الله بالظفر كهلاك عدوهم، أوانتصارهم وظهورهم على من خالفهم، فيقابلون ذلك بالأمر الشرعي وهو حمد الله وشكره، وأحياناً يقدر الله لهم البلاء ووقوع الضرر الدنيوي، بالقتل أو الجرح أو النفي أو الحبس أو الضرب، فلا يقابلون ذلك إلا بالرضا والصبر.
وإن من عجيب قضاء الله وقدره أن الحادثة الواحدة تجمع بين إدراك الظفر لبعض المؤمنين، وبين وقوع الضرر على آخرين، كما جرى على خاتم المرسلين وسادات الصالحين في غزوة بدر، فقُتل فيها بعض الصحابة رضي الله عنهم كعُمير بن الحُمَام رضي الله عنه في قصته المشهورة، حين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض، فقال عمير بن الحمام الأنصاري: يا رسول الله! جنة عرضها السماوات والأرض؟ قال: نعم، فقال عُمير: بخٍ بخٍ (كلمة تطلق لتفخيم الأمر وتعظيمه في الخير)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يحملك على قولك: بخٍ بخٍ؟، قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاءة أن أكون من أهلها، قال رسول الله ﷺ: فإنك من أهلها.
فأخرج تمرات من قرنه، أي (جعبته) فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قُتِل رضي الله عنه وأرضاه (رواه مسلم)، وفي نفس الغزوة منَّ الله على النبي ﷺ وأكثر أصحابه بالظفر والانتصار وعاقب عدوهم بالهلاك والانكسار.
ومن أراد المزيد فليتأمل حال أئمة الدين من المجددين، كابن حَنْبَل وابن تيمية وابن عبدالوهاب، كيف داول الله عليهم الأيام، بين الحبس والجلد والنفي، وتكالب الأعداء والخصوم، وبين الغلبة والظهور بالحجة والبيان والسيف والسنان، كما قال تعالى: إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين وكان أولئك الأئمة يتلقون كل نازلة بما يناسبها من منازل العبادة والطاعة فبالشكر والحمد تارة وبالصبر والرضا تارات أخرى، كما قال ابن سعدي رحمه الله في تفسيره: وطاعة الله: امتثال أمره في كل وقت، بحسب ذلك.
بل كلما زاد الإيمان والجهاد زاد الابتلاء والتمحيص للعبد المؤمن، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلباً اشتد به بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة. أخرجه الإمام أحمد وغيره.
وكلما عظُمت السلعة، عظُم ثمنها، وهان على العاقل بذل كل نفيس لإدراكها والفوز بها، كما قال المتنبي:
كــأن نَفســك لاتَرضـاك صاحبَهـا
إِلاوأَنــتَ عـلى المفِضـال مِفضـالُ
ولا تَعـــدكَ صَوَّانـــا لِمُهجَتِهــا
إِلاوأنــتَ لهــا فـي الـرَوع بـذالُ
لــولا المشــقةُ سـادَ النـاسُ كُـلَهم
الجـــودُ يُفقِــر والإقــدامُ قَتَّــالُ
هذا يقوله أصحاب الدنيا الفانية في بلوغ المنى منها وما في ذلك من تحملهم التعب والنصب، فكيف إذا كانت السلعة رضى الله، ثم جنة عرضها السموات والأرض، قال تعالى مبيناً هذا المعنى: إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم.
قال ابن تيمية رحمه الله: مما يعين العبد على الصبر أشياء، وذكر منها:
١-إن أوذي (العبد) على ما فعله لله أو على ما أمره به من طاعته ونهى عنه من معصيته وجب عليه الصبر، فإنه قد أوذي في الله، فأجره على الله، ولهذا لما كان المجاهدون في سبيل الله ذهبت دماؤهم وأموالهم في الله لم تكن مضمونة، فإن الله - تعالى - اشترى منهم أنفسهم وأموالهم، فالثمن على الله لا على الخلق، فمن طلب الثمن منهم لم يكن له على الله ثمن، فإنه من كان في الله تلفه كان على الله خلفه.
٢-أن يشهد معية الله معه إذا صبر، ومحبة الله له ورضاه، ومن كان الله معه دفع عنه من أنواع الأذى والمضرات ما لا يدفع عنه أحد من خلقه، قال الله تعالى: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) وقال: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ).
٣-أن يشهد أن الصبر نصف الإيمان، فلا يبدل من إيمانه جزءاً؟ في نصرة نفسه، فإن صبر فقد أحرز إيمانه وصانه من النقص والله - تعالى - يدافع عن الذين آمنوا.
٤-أن يشهد أن صبره حكم منه على نفسه، وقهر لها، وغلبة لها، فمتى كانت النفس مقهورة معه مغلوبة، لم تطمع في استرقاقه، وأسره، وإلقائه في المهالك، ومتى كان مطيعاً لها سامعاً منها مقهوراً معها لم تزل به حتى تهلكه، أوتتداركه رحمة من ربه، فلو لم يكن في الصبر إلا قهره لنفسه ولشيطانه، فحينئذ يظهر سلطان القلب وتثبت جنوده، فيفرح ويقوى ويطرد العدو عنه.
٥-أن يعلم أنه إن صبر فالله ناصره ولابد، فإن الله وكيل من صبر وأحال ظالمه عليه ومن انتصر بنفسه لنفسه وكله الله إلى نفسه، فكان هو الناصر لها، فأين من ناصره الله خير الناصرين، إلى من ناصره نفسه أعجز الناصرين وأضعفه.
٦-أن هذه المظلمة التي قد ظُلمها هي سبب،إما لتكفير سيئة، أو رفع درجة، فإذا انتقم ولم يصبر لم تكن مكفرة لسيئته ولا رافعة لدرجته ا.هـ من قاعدة في الصبر.
وأخيرًا: وصية لكل سني سلفي قام لله يجاهد أعداء الدين والسنة، إذا رأيت المخذلين والمخالفين، وارتفاع أصواتهم، فلا تلق لهم بالاً ولا تعرهم سمعاً، فإن الله أخبرك عن سلفك وسلفهم وكيف كان همُّ سلفك الله والدار الآخرة، وكان همُّ سلفهم الدنيا، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَّوْ كانوا عِندَنَا مَامَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَٰلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ ۗ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ، وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ.
ويكفي عزة وثباتاً أن تعلم الذين معك على هذه الطريق وهم: محمد ﷺ وأصحابه، وصفوة خلق الله من الأنبياء والمرسلين والشهداء والصالحين، فاثبت على دينك واعلم أن الأمر قريب والمدة يسيرة، والجنة غالية وباقية، والدنيا تافهة وفانية، وأن للمتقين العاقبة.
قال الإمام أبو إسماعيل عبد الله بن محمد الهروي رحمه الله: عُرضتُ على السّيف خمس مرّات لا يُقال لي ارجعْ عن مذهَبك و لكن يُقال لي: اسكُتْ عمّن خالفَك فأقول: لا أسكُت.
وقالت الخنساء رحمها الله:
ومن ظن ممن يلاقي الحروب
بألا يصاب فقد ظن عجزا
اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، وانصر بنا الملة والسنة، واهزم ملل الكفر وفرق البدعة وأهلها، يا من لا يُخلف وعده، ولا يُهزم جنده، والحمد لله رب العالمين.
اقرأ المزيد
رسالة ود ومحبة وإخاء لمن يستشعر هذه الأيام بشيئ من الملل ويشعر بالضيق من الجلوس في منزله بسبب فيروس "كورونا" .
الحمد لله الذي خلق الخلق أجمعين ورفع منهم من استقام على صراطه المستقيم، وأشهد أن لا إله إلا الله القوي المتين
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا
فإن صدور القرارات المتتالية والإجراءات الاحترازية التي اتخذتها المملكة العربية السعودية في تصدي مرض كورونا
يتردَّد كثيرًا في مجالس النّاس هذه الأيام حديثٌ عن مرض يتخوَّفون منه ويخشون من انتشاره والإصابة به ، بين حديث رجلٍ مُتَنَدِّرٍ مازح، أو رجلٍ مبيِّنٍ ناصح،